من السهل إثارة الأسئلة المثيرة للجدل التى تلفت النظر للمكتوب والكاتب.. وصياغة العناوين المليئة بالسلبية والتى تجذب القارئ.. ولكن الحق والعدل يدعونا لأن نكتب بضمير حول الأولمبياد الأخيرة فى باريس وما تحقق فيها من إنجازات وتحديات واخفاقات.. فقد شاركت مصر بأكبر بعثة فى تاريخها، تضم 149 لاعباً ولاعبة و16 لاعباً احتياطياً، فى 24 لعبة أولمبية، حصلت مصر على ثلاث ميداليات فقط.
فصحيح ان الأداء العام لم يكن مثاليًّا، وأن كثيرا من سلوكيات الاتحادات والقائمين على البعثة شابها قصور، يستوجب المراجعة والتقييم والمساءلة وفق القواعد الإجرائية والقانونية، وهذا ما أكده وزير الشباب الرياضة قبل أيام.. أن المجال مفتوح لمحاسبة كل المقصرين والمخطئين، ما يعنى أنه بصفته الاعتبارية غير راض عن الصورة العامة، لكن الفارق شاسع بين البحث فى الأسباب مشفوعا بتلمس المسئولين الفعليين، والعمل على العلاج وسد الثغرات، وأن يكون النقد بغرض الشماتة وإهالة التراب دون منطق أو وعي، كما لو أن المقصود ذبح الجميع وإبقاء المشكلة على حالها، بينما القصد من أى رقابة، سابقة أو لاحقة، أن نعود من الطرق الخاطئة، لا أن نمضى فيها بلوثة العاطفة وتغييب العقل، وأن يكون الحساب للتصحيح لا لتعليق المشانق.. وبنظرة تحليلية فاحصة لما حدث فى باريس.. فقد أحرزت مصر ثلاث ميداليات، والواقع أن هذا يأتى فى حدود المتوسط العام المرتفع لمستوانا الأُولمبي، ويفوق كثيرا ما حققناه فى دورات عديدة سابقة.. صحيح أن التقييم يرتبط بعدة اعتبارات، منها حجم البعثة وحجم الإنفاق، والأهم طبيعة الجهد، لكن هذه التفاصيل تقع فى نطاق البحث عن التجويد، لا العقاب على الفشل.
فتاريخنا فى الأولمبياد يقول إننا حصلنا على 41 ميدالية متنوعة كحصيلة إجمالية لمشاركاتنا، منذ المحاولة الأولى فى دورة استوكهولم 1912، ولم نشارك فى أربع من 27 نسخة خلال أكثر من قرن، ولم نحرز أى ميدالية فى تسع بطولات، وكانت أعلى أرقامنا «طوكيو 2020» بستّ ميداليات، تليها برلين 1936 ولندن 1948 وآثينا 2004 بخمسة، ثم أمستردام 1928 بأربع ميداليات، ومعها لندن 2012 التى أنهيناها بميداليتين فقط، ثم أُضيفت لنا اثنتان أُخريان بعد سنوات، لاستبعاد بعض الفائزين بسبب المنشطات، وهكذا عُدل ترتيبنا العام من 58 إلى 55، وكان 72 فى دورة «ريو دى جانيرو 2016» بثلاث ميداليات، و54 فى نسخة طوكيو الأبرز، لكننا للمفارقة صرنا اليوم فى المركز الخمسين، ما يعنى أننا تقدمنا ولم نتراجع.
ربما يكون تقدما ضئيلاً، وأقل من طموحاتنا ومما نستحق فعلاً، لكنه فى النهاية ليس انتكاسة، ولا انحدارا، والدورة والحالية فى أسوأ الظروف تقع ضمن أفضل خمس أو ست مشاركات مصرية فى الأولمبياد.
ومع ذلك يجب ألا تأخذنا نشوة الميدالياتِ الثلاث عن المراجعة، كما لا يجوز أن يسوقنا الغضب لظلم الفائزين أو نقصر فى تكريمهم.. فذهبية الجندى لن تعمى العيون عن صفيح الآخرين، أكانوا مسئولين أم أفرادا عاديين.. كثير من الاتحادات تتوجب مساءلتها، وتفعيل كل الأدوات بما لا يرخى عليها مظلة الحماية الأُولمبية من الإخضاع لسلطة الدولة وأجهزتها الرقابية والقانونية، كما يتعين تجديد الرؤية وآليات عمل المنظومة الرياضية بكاملها، وتحديث المشروع الأولمبى المصري، أو استحداثه إن لم يكن موجودًا على الوجه الذى يجعله مشروعًا حقيقيا، والأهم من كل هذا أن ننشط مراكز البحوث الاجتماعية وعلماء النفس، لنعرف لماذا ينفصل بعض أبنائنا عن الشواغل العامة، أو يسيرون أحيانا فى اتجاهات مضادة لها، ولماذا يُساق الناس على المنصات الرقمية بتلك السهولة والفجاجة.. ولعل هذا مما يوجِب تطوير فلسفة «بناء الإنسان» التى تضعها الحكومة ضمن برنامجها، ويشدد عليها الرئيس دومًا، مع إعادة تكوينها على صورة أعمق وأكثر انضباطًا بحقائق الواقع وخلاصات البحث الحصيف، وبالمستهدفات المنطقية المدققة.