يبدو أن الرئيس الأوكرانى فلودومير زيلنسكى قد أدرك بأن حالة التوتر والتصعيد العسكرى الذى يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلى فى الشرق الأوسط قد بدأ فى استقطاب اهتمام العالم كله لهذه المنطقة بعيدا عن الحرب الأوكرانية – الروسية فقرر أن يقوم بمغامرة غير مسبوقة يستعيد بها بعض ما فقدته معركة بلاده من اهتمام.
فاجأ العالم منذ أسبوع بقيام قوات من الجيش الأوكرانى باختراق الحدود الروسية من منطقة «كورسك» الروسية جنوب غربى روسيا والتوغل فيها والسيطرة – حتى أمس على مساحة عشرة آلاف كيلو متر بعمق عشرين كيلو مترا وإجبار السلطات الروسية على إعلان حالة الطوارئ فى المنطقة وما حولها وإجلاء عشرات الآلاف من سكانها إلى الداخل.
المفاجأة جاءت مزدوجة.
قبلها بأسابيع كان زيلنسكى يتحدث عن السلام والمفاوضات لإنهاء الحرب.. قال انه يعمل على عقد مؤتمر ثان للسلام على غرار المؤتمر الذى عقد فى سويسرا منذ شهور.
ولأن مؤتمر سويسرا لم يحقق شيئا نتيجة رفض زيلنسكى دعوة روسيا لحضوره ورفض الصين – التى وجه إليها الدعوة – المشاركة فيه بغياب روسيا، فقد أعلن زيلنسكى لأول مرة انه سيوجه الدعوة لروسيا للمشاركة فى المؤتمر المنتظر الذى سيكون موسعا.
فى نفس الوقت لم تكن القوات الروسية تكتفى بالسيطرة على المناطق الأربع التى تحتلها من أوكرانيا منذ بدء عمليتها العسكرية قبل عامين ونصف العام.. بل كانت تضاعف من غاراتها على مواقع جديدة وتعمل فى نفس الوقت على احكام سيطرتها على ما تحت يدها من مناطق تبلغ مساحتها 20 بالمائة من إجمالى مساحة أوكرانيا.
كان واضحا انه لم يعد لدى أوكرانيا أمل فى أن تنجح فى تحرير أراضيها من القوات الروسية بالقوة العسكرية رغم تدفق مئات الشحنات العسكرية إليها من أمريكا وأوروبا وفق ما تطلبه ومضاعفة المساعدات المالية لها، ليس فقط من موازنات هذه الدول، بل أيضاً – ولأول مرة – من عوائد الأصول الروسية المجمدة لدى الغرب طبقاً لعقوباته التى فرضها على روسيا.
المفاجأة جاءت متعددة الأهداف.. وتضرب فى أكثر من اتجاه:
1 – كسر هيبة روسيا كقوة عالمية كبرى وإحباط معنويات جيشها وإثبات انها ليست عصية على الاختراق العسكرى لأراضيها من جانب دولة أقل قوة فى سابقة لم تتعرض لها روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قبل ثمانين سنة.
2 – رسالة عملية على الأرض لأمريكا والغرب بنجاح الجيش الأوكرانى فى تفعيل ما حصل عليه من أسلحة ومعدات وأموال حتى يواصل الحلفاء إمداداتهم وتطويرها بما طلبته أوكرانيا من أسلحة قادرة على ضرب العمق الروسى عن بُعد.
3 – الاستعداد لأى فرصة تفاوض باستخدام الجزء الذى دخلته من الأراضى الروسية كورقة تفاوضية فى مواجهة ما تحتله روسيا من الأراضى الأوكرانية حتى تتم المفاوضات بمنطق «سيب وأنا أسيب» وليس بتنازلات كاملة من طرف واحد.
4 – التأثير فى الداخل الروسى خاصة بعد نجاح المسيرات الأوكرانية فى تحقيق اختراقات للأجواء الروسية خلال الشهور الأخيرة ولأجواء شبه جزيرة القرم وضرب قواعد عسكرية ومنشآت بترولية داخل الأراضى الروسية بما يزعزع الاستقرار الداخلى.
5 – يعلم زيلنسكى جيداً ان هناك تفكيرا لدى حلفائه الغربيين فى تنحيته عن رئاسة أوكرانيا وهناك مرشح بديل له بالفعل ويريد ألا يذهب جهده فى الحرب هباءً ويخرج دون أى انتصار يحسب له.. تماما كما يفكر شقيقه نتنياهو فى إسرائيل ولذلك أقدم على هذه المغامرة.
السؤال هنا:
هل هذه خطة زيلنسكى.. أم خطة «ترامب»؟!
إن حدوث هذه المغامرة فى هذا التوقيت من انتخابات الرئاسة الأمريكية وتصريحات ترامب المتكررة عن قدراته – إذا فاز فى الانتخابات – على إنهاء الحرب الأوكرانية – الروسية خلال أربع وعشرين ساعة دون أن يفصح فى أى مرة عن كيف سيفعل ذلك، يشى بأنها خطة ترامب أوحى بها للرئيس الأوكرانى لفتح باب للتفاوض والوصول إلى حل لا تتحمل أوكرانيا ثمنه كله، بل يتم بتنازلات متبادلة مع روسيا.
لكن.. بصرف النظر عن «خطة من؟!» فإن نجاح هذه الخطة يتوقف على أمرين:
الأول – رد الفعل الروسى على العملية الأوكرانية.
الثاني- مدى قدرة القوات الأوكرانية التى تغلغلت داخل الأراضى الروسية على الحفاظ على سيطرتها على هذه الأراضى والدفاع عنها والبقاء فيها حتى بدء التفاوض.
بالنسبة لرد الفعل الروسى واضح ان الفعل نفسه كان مفاجأة للرئيس بوتين نفسه، فقد كان أول تعليق له عندما تم ابلاغه بالأمر انه «استفزاز شديد» وان هدفه زعزعة استقرار الداخل الروسى ثم بدأ الحديث عن أسلحة من حلف الأطلنطى فى أيدى القوات الأوكرانية المهاجمة وعن خبراء غربيين يساعدونها.. وكل ذلك ليس بجديد.. قبل أن يصدر أوامره لوزير دفاعه وقادة جيشه بالقضاء على القوات المهاجمة وتطهير الأراضى الروسية منها.
وبدأ الدفع بتعزيزات كبيرة للمنطقة وضرب مصدر الإمداد العسكرى الرئيسى للقوات الأوكرانية المهاجمة فى منطقة «سومى» الأوكرانية لقطع الإمدادات عنها.
بالنسبة لقوة عسكرية عظمى مثل روسيا، لا شيء يزيل أثر المساس بهيبتها وكبريائها فى هذه الحالة، إلا تطويق القوات المهاجمة بحصار كامل وإبادتها فى مكانها.
أما مدى قدرة القوات الأوكرانية على البقاء فى الأراضى الروسية التى توغلت فيها فتتوقف على ما إذا كان حلفاؤها الغربيون سيوافقونها على ذلك أم سيطالبونها بالانسحاب اكتفاء بأن ما قامت به يمثل – فى حد ذاته – انتصارا.
نحن أمام طرفين رئيسيين يصر كل منهما على ألا يسمح للآخر بتحقيق انتصار كامل.. روسيا فى مواجهة حلف الأطلنطي.
وإذا دعم الغرب الوجود العسكرى الأوكرانى فى جزء من الأراضى الروسية ووجد الرئيس بوتين ان مواجهة هذا الوجود لن تنجح بالأسلحة التقليدية، فقد يفكر فى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لأن الحالة التى يواجهها ينطبق عليها توصيف «الحرب الوجودية» الذى جعلها شرطا للجوء لما بعد الأسلحة التقليدية.
الوضع فى غاية الخطورة.. سواء فى أوكرانيا أو فى الشرق الأوسط.. التصعيد – للأسف – هو الخيار الأول الآن.. وترامب يتحدث فى آخر تصريحاته عن حرب عالمية وشيكة ويتهم إدارة بايدن بأنها بسياساتها الغبية السبب فى الوصول بالعالم لهذه المنطقة.