تستطيع أي دولة أن تضع نفسها في المنطقة والمكانة التي تريدها بأفعالها وتحركاتها ومدى قوتها القضية ليست أنك تريد أو تحلم، المهم أنك تملك تحقيق ما تريد، وتتحرك في سبيل الوصول إليه كثيرون يريدون لكن قليلين من يملكون قدرة تحويل الإرادة إلى فعل.
والأمر هنا لا يتعلق بامتلاك المال أو حتى شراء المواقف أو الترويج والتسويق الإعلامي والسياسي، فكل هذه عوامل مطلوبة لكنها مساعدة وليست أساسية الأهم هو امتلاك الدولة لمقومات القدرة وإدراكها لقدراتها ومهاراتها في تسخير كل الإمكانات لتحقيق أهدافها، الأمر يتطلب رؤية وليس مجرد حلم جدية وليس مجرد رغبة فأبواب الكبار لا تفتح بالاحلام والمساحة بينهم لا تحجز بالتمنيات والشعارات ليست هناك دولة فى العالم إلا وتتمنى وتتحدث عن ان تكون بين الكبار. لكن من وصل إلى هذه المنطقة عدد محدود من امتلك التأثير والنفوذ وأصبح رقما فى المعادلة الدولية قليل من الدول وبجهد شاق، بينما ما زالت البقية ما بين من تحاول ومن تتمنى ومن تصارع بكل قدراتها ومن سيطر عليها الياس ومن فشلت لأنها لا تملك مقومات الكبار ولا رؤية تجعلها تحظى بالاحترام لتفرض نفسها في هذه المساحة.
عندما نتحدث عن مصر فهى نموذج للدولة التى تستحق ان تكون بين الكبار لأن لديها المقومات وعندها الرؤية وتمتلك القيادة القادرة على إدارة إمكاناتها وتحويلها إلى قدرات.
مصر تمتلك قوة وقدرة الموقع، وإذا كنا توقفنا عند وصف العبقرى جمال حمدان عبقرية المكان فهو نفسه شرح هذا الوصف بجملة اعتبرها لا تقل عبقرية عندما قال إن مصر فلتة جغرافية لأنها تمتلك في مكانها وموقعها كل عوامل ومقومات القوة والتأثير وفرض النفوذ كما تمتلك القدرات التى تجعلها صاحبة تأثير وقرار مستقل لا تفرض عليها توجهات ولا تخضع لضغوط ولا تحتاج أن تدخل تحت عباءة أحد بحثا عن حماية أو قوة مصر لديها جيشها الوطنى الرادع الذى يمتلك خبرة الحرب وقوة فرض السلام، ولديها مؤسساتها الوطنية القادرة على التحرك وفق إستراتيجية ومحددات واضحة وبخطوات ثابتة، تتعامل وتشتبك مع كل الملفات تفتح مساحات جديدة وواسعة من العلاقات تتحرك بحرية شرقا وغربا، تنوع علاقاتها وسلاحها، تضع الثوابت المصرية وترسم خطوطها الحمراء وتفرضها في كل الأحداث.
مع وجود قيادة وطنية صاحبة رؤية وشخصية بحجم مصر وطموحاتها اكتملت القدرة المصرية على أن تضع الدولة نفسها وسط الكبار عن حق، وبأفعال حقيقية. بهذه المقومات والمحددات والرؤية اثبتت مصر للعالم كله أنها دولة محورية. لا يمكن الاستغناء عنها أو تهميش دورها فهي دولة صانعة سلام وتمتلك القدرة على أن تحقق التوازن والاستقرار في المنطقة، وأنه بدون الدور المصرى سيفقد السلام أهم عوامل نجاحه. وثبت ذلك عمليا في كثير من القضايا. لكنه تأكد بوضوح في القضية الـ الفلسطينية التي لا يجد العالم عاصمة قادرة على التعامل معها بحرفية وفهم وخبرة مصر ومصداقيتها بين كل الأطراف فمصر هي القادرة على طرح الأفكار وقيادة المفاوضات وحشد الرأى العام العالمي، ووضع ضوابط ملزمة وما تطرحه هو ما يتم التوافق عليه في النهاية لأن الجميع يعرف حجم تأثيرها في هذه القضية والدليل أنه عندما رفضت التهجير تراجع من كانوا يخططون له.
في كثير من قضايا الإقليم، من سوريا إلى ليبيا إلى السودان يظل الدور المصرى هو الأهم. والرؤية المصرية هي الأكثر واقعية لأنها الدولة الأكثر فهما لطبيعة الإقليم وتركيبته وتوازناته، ولذلك ليس غريبا أن نجد الكبار فى العالم يحافظون على علاقاتهم بالقاهرة، يأتون إليها للتشاور يفتحون صفحات جديدة من العلاقات معها بل وترفيعها إلى مستويات إستراتيجية. هذا ما فعله الاتحاد الأوروبي، وما تؤكد عليه واشنطن وتلتزم به روسيا الكبار في العالم حريصون على التحاور مع مصر والانصات لقيادتها، ويحرصون على دعوة الرئيس إلى كل المحافل والمنتديات الكبرى لأنهم أدركوا معنى الوجود المصرى وأهمية التعاون معها. بالطبع لم يكن يحدث كل هذا لولا أن الدولة المصرية استعادت قوتها وتماسكها واستقرارها، وخرجت من بئر الفوضى التي وقعت فيها عقب 2011 وكلفنا هذا الكثير.
لم يكن ممكنا ان تكون مصر لاعبا مؤثرا فى المحيط الخارجي والدولة تعاني داخليا من الضعف، كما لم يكن متوقعا ان تتحرك بقوة وتفرض إرادتها في ملفات إقليمية ودولية ولديها أزمات وعدم استقرار داخلي، لهذا كان الاهتمام ببناء الدولة من جديد، وعلى أسس امتلاك عناصر القوة الاقتصادية، والعسكرية والاجتماعية والسياسية، منظومة بناء تمت بإتقان، وبتكلفة كبيرة لكنها لم تكن رفاهية بل ضرورة بقاء.
ما حدث من بناء كان وفقا لأولويات واضحة وخطوات واثقة، وتأثيرها كان سريعا وملموسا. ولهذا فوجود مصر الآن بين الكبار واستعادة مكانتها إقليميا لم يكن من فراغ وإنما نتيجة جهد كبير ورؤية وإصرار على الوصول إلى الهدف، ولذلك نجحنا في تحقيق ما يفكر به كل مصرى.