على كورنيش النيل وجدته يقف حول عربة قديمة أنيقة يقدم للناس الايس كريم بنكهاته المختلفة، الناس حوله سعداء يضحكون ويتسامرون فى جو من المرح والسرور، وقفت أراقب هذا المشهد الذى غاب عن عينى كثيرا منذ كنت طفلا صغيرا أقف امام بائع الجيلاتى فى مدرستى الابتدائية، كان صوت موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب يصدح بكلمات الشاعر العظيم محمود حسن إسماعيل «النهر الخالد» والتى لحنها وغناها وأطربنا بها عبدالوهاب، وهو يقول « ظمان والكأس فى يديه والحب والفن والجمالُ، ولم يزل ينشدُ الديارَا ويسأل الليل والنهارَا.
والناس فى حبه سكارى هاموا على شطه الرحيبِ
>>>
>> آهٍ على سرك الرهيبِ وموجك التائه الغريبِ
>> يا نيل يا ساحر الغيوب
>> يا واهب الخلدِ للزمانِ يا ساقى الحبِ والأغاني
>> هات اسقنى واسقنى ودعنى أهيم كالطير فى الجنانِ
>> يا ليتنى موجة فأحكى إلى لياليكَ ما شجاني
>> وأغتدى للرياحِ جارا وأسكب النور للحياري» وقفت استمع وأستمتع واتلذذ بكلمات وموسيقى وصوت عبدالوهاب ونسمات الهواء العليل تداعب روحى وضحكات الناس العادية الطبيعية ترسم لوحة سريالية تجريدية متداخلة يختلط فيها الواقع والخيال وتستحضر فيها التناقضات العقلية المذهلة،
>>>
كان مصدر السعادة ذلك الرجل الذى يقف على تلك السيارة القديمة الأنيقة وما بها من أوعية بها أنواع الايس كريم وابتسامته الساحرة الدائمة وروحه المصرية العميقة التى ترجمتها خفة الدم الطاغية، تسللت وسط الحشد السعيد وطلبت بوله من الايس كريم فى قمع من البسكويت وكانت الأيادى تتسابق ما بين الطلب والدفع والاستلام وقفت متباطئا أراقب الناس وأستمع إلى أحاديثهم وضحكاتهم ونكاتهم، كانت البساطة والرضا مع خفة الدم هى العنوان، انتبه إلى وجودى بائع الايس كريم فرحب بى كثيرا واعطانى ما طلبته وبالغ فى كرمه وخرج لالتقاط السلفى معى هو والسيارة الأنيقة،
>>>
انتبه بعض الناس فجاءنى بعضهم يسأل ويستفسر عن بعض الأمور المرتبطة بالشأن العام المصرى والعربي، الوضع الاقتصادى والدولار والدعم والأسعار و ترامب وفلسطين، كنت أتحدث بكلمات مقتضبة دون تفسير تمثل اجابات سريعة، كنت حريصا على ألا أخرج الناس من مود السعادة والانبساط والفرح إلى مود الجدية والتحديات والأزمات، كنت أستمع إلى الضحكات الصافية وانا سعيد لسماعها واقول بينى وبين نفسي
« يارب يفرح الناس « وما ان يقترب منى أحدهم لسؤالى عن الأحوال فيتحول تماما، وتخفت أصوات الضحكات وتختفى الابتسامة تدريجيا، وتعود قسمات الوجه إلى حالة الجدية الأقرب إلى العبوس، قلت لهم دعونى استمتع بتناول الايس كريم معكم وبدأنا فى حوارات مختلفة عن نكهات الايس كريم اللذيذة وعن ام كلثوم وعبدالوهاب والفن ونهر النيل،
>>>
فجأة تحول الناس مجددا للعبوس وهم يسألون عن الفن وأغانى زمان، حاولت أن اسطح الحوار فانتبه بائع الايس كريم وقال لى معلش الناس مشغولة وقلقانة على البلد ومصدقوا يشوفوك وعاوزين يطمنوا منك، قلت له والله نفسى أطمنهم جميعا واجعلهم سعداء يبتسمون ويضحكون ويشيعون جوا من الفرح، لكن الواقع الذى نعيشه صعب ولا يمكن ان أقول لهم اكاذيب مريحة بل دائما ما أصر على قول الحقائق حتى لو كانت مزعجة، فاجأنى بائع الايس كريم المثقف الواعى بقوله «لن تستطيع ان تسعد الناس جميعا إلا إذا عملت بائعا للايس كريم مثلي» أما مهنة الكتابة والصحافة والإعلام والسياسة فلن تسعد العاملين فيها ولن تستطيع ان تسعد الناس «
>>>
اخباركم وتحليلاتكم وتغطياتكم مرتبطة بالحروب والأزمات والمشاكل والتحديات، فالناس تختفى ابتسامتهم مع سماع الاخبار والبرامج، أما إذا اشتغلت بائعا للايس كريم فلن يأتيك إلا الباحثون عن السعادة المجانية والذين قرروا ان يفصلوا شويتين عن الواقع، أنا بائع السعادة وصانعها وأنتم تبددون تلك السعادة بتلك الاخبار والبرامج، استمعت إلى ما قاله الرجل وأيقنت ان إسعاد الناس وإرضاءهم غاية لن يدركها احد من القادة او الزعماء او المديرين او الكتاب او المثقفين والفلاسفة، فقط قد يدركها بائع الايس كريم .