وكأنه كان يتحدث عن إسرائيل «اليوم».. هذا ماقاله المفكر الراحل أنيس منصور «قبل خمسين عاماً» عن الأجيال الإسرائيلية «القادمة» التى ستحكم وتتحكم «مستقبلا» فى سياسات وقرارات وحروب «دولة الاحتلال».. قال أنيس منصور فى كتابه «الصابرا.. الجيل الجديد فى إسرائيل» والذى صدرت طبعته الأولى فى عام «1974»: أى نوع من البشر هؤلاء الشبان الذين يحاربون فى الجيش الإسرائيلي؟!.. أى نوع من الناس هؤلاء الذين سوف يحكمون إسرائيل فى الأجيال القادمة؟!.. من أين جاءوا؟!.. ما ألوانهم؟!.. ما مذهبهم؟!.. ما هى لغتهم؟!.. إنهم طراز مختلف تماما عن كل أنواع اليهود الذين عرفهم العالم.. لأن إسرائيل قامت «بتخليق» هذا الجيل.. جاءت بهم من بلاد مختلفة ووضعتهم فى قوالب من حديد وجردتهم من الأب والأم واللغة والدين أحيانا.. وربطتهم بهذه الأرض «المسروقة»!!.. وكأن أنيس منصور كان يتحدث عن إسرائيل «اليوم».. إسرائيل نتنياهو.. وبن غافير.. وسموتريتس.. وهذا الجيش الإسرائيلى الذى أحرق غزة وأبادها.. جيش لم يرحم بشرا ولا شجراً ولاحجراً!!
فى كتابه «الصابرا.. الجيل الجديد فى إسرائيل».. يشير أنيس منصور إلى نقطة البداية التى انطلق منها «المحتلون الأوائل» لصناعة أجيال إسرائيلية جديدة تكون أكثر عنفا ودموية وإجراما وفتكا وكراهية للعرب جميعا.. هذه الأجيال صاغتها طبيعة الحياة داخل «المستعمرة».. المستعمرة.. ذلك المصنع الذى صهر فيه «الصهاينة المؤسسون» عناصر ومفردات من أصقاع ومعاجم شتى من أجل «إنتاج» أجيال إسرائيلية تستطيع أن تتولى مراكز القيادة وتسعى بكل طاقاتها لتحقيق الحلم الصهيونى الكبير والذى يتمثل فى إقامة «إسرائيل الكبري».. مستعمرات الصهاينة الأوائل هى «كلمة المرور « إلى أعماق التكوين الإجرامي الصهيوني.. وبوابة العبور نحو «خرائط الدم»التى يخطط لرسمها الممسكون بمراكز صنع القرار الإسرائيلي.. هذه المستعمرات تخرج منها الجيل تلو الجيل حتى وصل «الطراز» إلى الجيل الحالى.. «جيل حرب إبادة غزة».. هذا الجيل هو «بشكل أو بآخر» من صناعة «المستعمرة القديمة».. تلك المستعمرة التى وضعت منهجا وأسلوبا وقاعدة سارت عليها بعد ذلك جميع مؤسسات تشكيل وتكوين الشخصية بالنسبة للإسرائيليين الجدد الذين ولدوا وتربوا «داخل إسرائيل».. الأخطر فى الموضوع أن أبناء «الصابرا» أو أبناء المستعمرات الذين ينتمى إليهم «الجيل الحالي» فى إسرائيل.. هؤلاء أبناء «الصابرا».. أبناء المستعمرات.. سيكونون «الرقم الأبرز» فى توجيه السياسة الإسرائيلية لعقود طويلة قادمة وفقاً لما ذكره عدد من كبار المؤرخين غير أنيس منصور.. فيا ترى إلى أين يتجه «هؤلاء» إذا نجحوا فى اجتياز غزة والضفة؟!!
تناولنا الأسبوع الماضى بعض ما جاء فى كتاب «الصابرا.. الجيل الجديد فى إسرائيل» عن المستعمرات الإسرائيلية التى أسسها الصهاينة الأوائل فوق الأراضى الفلسطينية المحتلة.. هذه المستعمرات التى أشار الكتاب إلى أن الهدف الأبرز من إنشائها هو «صناعة» أجيال إسرائيلية جديدة تقود «دولة الاحتلال» فى المستقبل .. واليوم إن شاء الله سبحانه وتعالى نستكمل ما ورد فى الكتاب من «رسائل» أخري.. يلقى أنيس منصور المزيد من الضوء على «المستعمرات» التى كانت «ومازالت» كلمة السر فى هذا الإجرام الإسرائيلى المتصاعد ضد كل ما هو عربى سواء داخل فلسطين أو خارجها.. يقول أنيس منصور فى كتابه عن الحياة داخل «المستعمرة»:المستعمرة عبارة عن قرية صغيرة تعيش على الاكتفاء الذاتي.. تزرع وتحصد وتبيع.. والعائد من الأموال يكون للمستعمرة كلها.. الأرض مشاع بين الجميع فلا أحد يملك الأرض ولا يملك ملابسه.. الملابس واحدة والطعام واحد.. ولافرق بين الرجل والمرأة.. كلهم ينامون فى فراش واحد.. الحياة جماعية وكل شيء مكشوف.. كل شيء ممكن.. كل شيء فى متناول الجميع.. الطعام والشراب والجنس!!
هذه المستعمرات «وفقاً لماذكره أنيس منصور فى كتابه»: تملكها الأحزاب السياسية الإسرائيلية.. يسارية ويمينية ودينية.. واختارت لها أماكن فى الصحراء.. أما سكان هذه المستعمرات فقد تكفلت دولة الاحتلال بهم.. جميع سكان المستعمرات الإسرائيلية كانوا من أبناء اليهود الذين تركوا أوروبا وأمريكا وكل البلاد التى كانوا يقيمون فيها وجاءوا ليسكنوا فى إسرائيل.. أكثرهم من المتدينين والفقراء.. الآباء والأمهات يعيشون فى أى مكان فى إسرائيل لكن أطفالهم يتم نقلهم إلى المستعمرات.. يضيف أنيس منصور أنه فى بعض الحالات ينتقل الأبوان مع الطفل إلى المستعمرة.. وفى حالات أخرى يتم نقل الطفل بمفرده بعيداً عن أمه وأبيه.. ويشير أنيس منصور هنا إلى أنه لافرق بين «الحالتين» لأن أول مباديء الحياة داخل المستعمرة هو إبعاد الطفل عن أبويه.. والهدف من هذا الإبعاد هو «إنتاج» كائن غير ضعيف.. المطلوب ألا يتعلق الطفل بأمه وأبيه.. ينشأ الطفل ويتربى على معنى ومفهوم وإحساس وشعور واحد فقط أن إسرائيل هى الأم وهى الأب !!
يوضح أنيس منصور فى كتابه أنه: إذا قرر الأب والأم أن يعيشا داخل المستعمرة بالقرب من طفلهما فليس من حقهما التدخل فى أسلوب التربية أوحتى الإسراع إليه إذا سمع أحدهما صراخه ليلا أو نهارا.. الأبوان لهما الحق فى رؤية طفلهما «مرة واحدة» كل شهر.. الطفل ينام مع عشرات الأطفال فى عنبر واحد.. هناك فتاة أوسيدة مسئولة عن رعاية جميع أطفال العنبر.. جميع اللعب المخصصة للأطفال واحدة.. دبابة للولد.. ومدفع للبنت.. كل الدبابات متشابهة وكل المدافع ذات حجم ولون واحد.. الدراسة فى مكان واحد.. واللغة «إجباريا» لغة واحدة هى العبرية.. وحدث كما يروى الكتاب أن كثيرا من الآباء والأمهات كانوا يصطحبون «مترجمين» عند الزيارة الشهرية لأطفالهم.. ذلك لأن الأبوين من اليهود المهاجرين من فرنسا أو ألمانيا أو بولندا وهم لا يجيدون «العبرية» والتى لا يتحدث أطفالهم سواها!!.. التنشئة والتربية تظل هكذا داخل المستعمرة وهى التى توجه أبناء المستعمرات فى كل تحركاتهم وسلوكهم عندما يغادروا مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب وحتى الشيخوخة.
تطرق أنيس منصور فى كتابه إلى نقطة أخرى بالغة الأهمية إرتكزت عليها إسرائيل فى إنتاج أبناء المستعمرات.. الإسرائيليون الجدد.. هذه النقطة تتعلق بالمواد العلمية والأدبية والدينية التى كان القائمون على المستعمرات يعملون على ضخها فى عقول ووجدان الأطفال داخل المستعمرة.. يشير كتاب «الصابرا.. الجيل الجديد فى إسرائيل» إلى أن: أطفال المستعمرات كانوا يتلقون مجموعات كبيرة من «القصص» التى تناسب أعمارهم ومراحلهم السنية.. جميع هذه القصص تتحدث عن العذاب «المزعوم» الذى تعرض له اليهود فى شتى بقاع الأرض.. وكان للعرب نصيب الأسد من هذا الإدعاء المزعوم حيث يروى الكتاب أن القصص التى كانت تحكى لأطفال المستعمرات كانت تتحدث عن شخصيات عربية تأكل اليهود أحياء دون أن تسقط من أفواههم قطرة دم واحدة!!
أبناء المستعمرات كما يقول الكتاب: هم من «الصابرا» وهو اللقب الذى يطلق على الإسرائيليين الذين ولدوا وتربوا داخل إسرائيل.. ومعنى «الصابرا» باللغة العبرية هو نبات الصبار الذى ينمو فى الصحراء.. أبناء المستعمرات هؤلاء قامت إسرائيل بصناعتهم صناعة غير طبيعية.. تم تجريدهم من كل ماهوطبيعي.. تم تجريدهم من البنوة والحنان والحب والكره والأمل واليأس.. الإسرائيلى الجديد أرادوا له أن يكون «آلة» صماء.. لكى يدفعوه إلى الأمام وإلى الخلف كما يريدون فى الوقت الذى يشاءون.. الإسرائيلى الجديد أرادوا له أن يكون خالياً من جميع المشاعر الإنسانية.. لاوجود للشعور تجاه عطف الأب أو حنان الأم.. كل هذا تراه إدارة المستعمرة نوع من الترف وشكل من أشكال الضعف.. ويستغرق أنيس منصور فى وصف الإسرائيلى الجديد قائلا: إن إسرائيل أرادت لمواطنيها الجدد عدم الشكوى من أى مشكلة.. فلاداعى على سبيل المثال أن يشكو الإسرائيلى الجديد من عدم وجود «النصف الآخر» فى حياته.. ولاداعى لأن يتصور الفتاة ملاكا أو عفريتا.. ولاداعى لأن يكون زوجا.. وكذلك الفتاة لاداعى لأن تكون زوجة.. وإذا صارت زوجة.. فلاداعى لأن تكون أما وتتعذب بالأمومة.. ولاخوف على «بنت المستعمرة» إذا أنجبت بدون زواج.
يتحدث الكتاب عن بعض «المشاهد المألوفة» داخل المستعمرات والتى كانت مزارا سياحيا يحرص الذاهبون إلى دولة الاحتلال على مشاهدتها.. يتحدث الكتاب عن تلك الحالة التى كان يبدو عليها شبان وفتيات المستعمرات داخل المستعمرة.. يقول كتاب «الصابرا.. الجيل الجديد فى إسرائيل»: من المناظر المألوفة بالنسبة للمستعمرة أن يذهب السياح فيجدون شابا وشابة نائمين متجاورين عاريين تحت الأشجار.. دون أن يتحرك أحدهما لرؤية أجنبى أو عدد من الأجانب.. وهنا «كما يروى الكتاب».. يشرح المترجم الإسرائيلى «المشهد» بالمعنى والمفهوم والرؤية الإسرائيلية التى تهدف إلى إنتاج وصناعة أجيال جديدة.. يقول المترجم الإسرائيلى للسياح .. وفقاً لما جاء فى الكتاب : «هكذا نجحنا حيث فشل العالم كله.. لقد خلصنا الولد من التعلق بأمه وكراهية أبيه.. وخلصنا البنت من التعلق بأبيها وكراهية أمها.. الحياة داخل المستعمرة.. حياة بلا عقد.. بلا خوف.. بلاتحفظ»
ها هى المستعمرات.. التى عملت إسرائيل «منذ قيامها» على إعدادها وتجهيزها لتكون المصنع الذى ينتج «الإسرائيليين الجدد».. أولئك الذين ولدوا «داخل إسرائيل» وصار أبناؤهم وأحفادهم «الآن » منتشرون فى كافة أنحاء «الجسد الإسرائيلى» .. لقد عملت دولة الاحتلال مبكرا من أجل ظهور أبناء «الصابرا».. كائنات المستعمرات.. لقد ظهر «أكثر من نسخة» من أبناء المستعمرات على مدى السنوات والعقود الماضية.. أخذت النسخ تتطور شيئا فشيئاً حتى وصلت الصورة إلى «النسخة الحالية».. نسخة حرب إبادة غزة.. تلك النسخة التى يمثلها نتنياهو وبن غفير وسموتريتش ومعهم ذلك الجيش الذى حصل على شهادة دولية رسمية من الأمم المتحدة بأنه جيش «قاتل للأطفال».. فتش عن أجيال «الصابرا» وأبناء المستعمرات.. من يريد الحصول على تفسير شامل وافى لهذا الإجرام الإسرائيلى «المنقطع النظير» والذى يمارسه جيش الاحتلال فى «غزة».. من يرد ذلك فعليه أن يعود إلى مستعمرات الاحتلال الأولي.. «الإسرائيليون الجدد» بما يقومون به داخل فلسطين وخارجها إنما يعملون على تفجير «ينابيع الجحيم» فى المنطقة والشرق الأوسط.. الإسرائيليون الجدد من أبناء وحفدة «المستعمرات الأولى» هم أكبر تهديد للأمن والاستقرارفى العالم.. هم يحاولون .. لكنهم لن يمروا بإذن الله.
ونواصل إن شاء الله