لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك
نغمات مبهجة تشق طريقها نحو البيوت عبر موجات الإذاعة وشاشات التليفزيون التى لا تكفّ عن بث الفرح.. نغمات تحمل فى طياتها اشتياقًا دفينًا، وحنينًا مقدسًا إلى البيت العتيق.. إنها أغانى الحج التى تُبث فى عيد الأضحي، مكللة موسمًا من الفرحة الغامرة التى تعم أرجاء العالم الإسلامى فى تلك الأيام المباركة.
تأتى أغنية «إلى عرفات الله»، كواحدة من أشهر الأغنيات التى تتردد فى عيد الأضحى المبارك.. القصيدة كتبها أمير الشعراء أحمد شوقى فى عام 1910، ليهديها إلى الخديو عباس حلمى الثانى:
«دعانى إليك الصالح ابن محمدٍ.. فكان جوابى صالح الدعواتِ
وخيّرنى فى سابحٍ أو نجيبةٍ.. إليك فلم أختر سوى العبراتِ»
جاءت القصيدة فى ثلاثة وستين بيتًا، تشبه مناجاة، تهيم شوقًا.
وبعد ما يقرب من أربعة عقود، وتحديدًا فى عام 1949، اختارت المطربة نجاة على أن تُخرج هذه القصيدة إلى فضاء الطرب، فلحنها الموسيقار عبدالفتاح بدير وسجلتها للإذاعة، لتُصبح نشيدًا من نورٍ يُتلى مع كل موسم حج.
فى عام 1951، وقعت أم كلثوم على القصيدة، وأحبت أن تتوشح بها روحها وتُهديها بصوتها إلى العالم الإسلامي، لكن بشرط: أن تُعيد صياغة بعض الأبيات لتخرج بها من إطار المدح الخاص إلى الأفق الرحب للروح المؤمنة، فاستعانت بالشاعر أحمد رامي، الذى صاغ المطلع مجددًا ليصبح:
«إلى عرفات الله يا خير زائر.. عليك سلام الله فى عرفات».
اختار رامى خمسةً وعشرين بيتًا من القصيدة، أوسع من نسخة نجاة علي، وأعمق فى الروح.. غير أن الأمر لم يكن يسيرًا، إذ اعترضت الإذاعة على إعادة تسجيل القصيدة، بحجة أنها سبق وسُجلت، ودُفع مقابلها أجر اللحن والتوزيع، لكن أم كلثوم – وكانت وقتها نقيبة الموسيقيين – لم تكن لتقف عند الأبواب المغلقة، فاستأذنت زميلتها نجاة علي، وأقنعت الإذاعة بحقها فى إعادة تقديمها، ونجحت.
فى عام 1963، ارتدت القصيدة ثوبًا بصريًا جديدًا، إذ جرى تصويرها للتليفزيون على هيئة «فيديو كليب»، أخرجه أحمد بدرخان، ووضع تصميمه البصرى الفنان المبدع شادى عبد السلام، وصوره مدير التصوير الكبير وحيد فريد، فكان العمل تحفة فنية تمزج بين الشعر والتصوف، وبين الإيمان والفن.
فى أبياتها الشامخة، ينقلنا أمير الشعراء فى رحلة روحانية تتجاوز حدود الكلمات، تتجلّى قدسية المكان وسمو الزائر.. تبدأ اللوحة الشعرية بنداء يصور الحجيج وقد قصدوا عرفات، ذلك الوادى الطاهر الذى تُغسل فيه الذنوب وتُرفع فيه الأكف، فتستقبله الأرض بسلام الله، وكأن السماء أهدته تحيتها المباركة فى مشهد مهيب يفيض بالرضا والسكينة:
«إِلى عرفات الله يا خير زائرٍ.. عليك سلامُ الله فى عرفات
ويوم تولى وجهَة البيت ناظِرًا.. وسيم مجالى البِشرِ وَالقسمات
على كل أُفْق بِالحِجازِ مَلائك.. تَزف تَحايا الله وَالبركات
لدى البابِ جِبريل الأَمين بِراحِهِ.. رَسـائِلُ رحمانية النفحات
وَفى الكعبة الغراء ركن مرحب.. بكعبة قصاد وركن عفـاة
وزمزم تجرى بين عينيك أَعينًا.. من الكوثر المعسولِ منفجرات».
مكة وفيها جبال النور
كذلك تطل علينا دائمًا فى أيام عيد الأضحى المبارك أغنية أخرى لـ «كوكب الشرق» من كلمات بيرم التونسى وألحان رياض السنباطي، كقطعة بديعة، تنسج الكلمات خلالها مشهدًا روحيًا مهيبًا يجمع بين القداسة والحنين.. بين نور المكان ونقاء الشعور، لتتشكل أمامنا لوحة من نور وماء ودمع، تُروى بها الأرواح العطشى إلى الحرم الطاهر.
تفتتح الأغنية بمشهد جليل: مكة المكرمة شامخة بين الجبال، تحيط بها جبال النور، وكأنها حراس للقداسة، تطل على البيت المعمور الذى تعلقت به أفئدة الناس، وكأن الأرض فى هذا الموضع تنظر إلى السماء، والسماء تنظر إلى الأرض، لتأتى لحظة الدخول إلى الحرم عبر «باب السلام» عبورًا روحيًا، حين يغمر السلام القلوب ويغسلها العفو الغفار.
ثم يجذبنا بيرم أسراب الحمام التى تسكن الحرم تحلق كأنها أفلاك سماوية، كثيرة لا تُحصي، توحى بالسكينة، وتحمل بركة الأرض التى قدسها الله، فكما يطوف البشر حول الكعبة، تطوف الحمائم فوقها، آلاف تلو آلاف، كأن الأرض والسماء صارتا فى طوافٍ مشترك، مخلوقات كلها تسبّح وتقدس، فى تناغم كونى بديع، وكأن تلك الحمائم جاءت فى مهمة سماوية، تُبشر الحجاج بقبول زيارتهم، وتهنئهم بما نالوه من رحمة وعفو:
«مكة وفيها جبال النور.. طالة على البيت المعمور
دخلنا باب السلام.. غمر قلوبنا السلام بعفو رب غفور..
فوقنا حمام الحما.. عدد نجوم السما طاير علينا يطوف
أُلوف تتابع ألوف.. طاير يهنى ضيوف بالعفو والمرحمة..
واللى نظم سيره.. واحد مفيش غيره
دعانى لبيته.. لحد باب بيته
وأما تجلى لي.. بالدمع ناجيته».
«يا رايحين للنبى الغالى»
فى تلك الأيام المقدسة أغنية «يا رايحين للنبى الغالي» التى تغنت بها ليلى مراد من كلمات أبوالسعود الإبياري، وألحان رياض السنباطي.. كلمات تنبض بشوقٍ ولهفة طاهرة إلى مدينة النور، إلى الحبيب المصطفي، ونداء يخرج من القلب يُخاطب فيه المسافرين زائرى رسول الله، وكأنّه يراهم يسيرون على بساط من نور، فتدمع العين وتتحرّك الهمّة لدعاء صادق يتوشح بالأمل، فهنيئًا لمن نال شرف الزيارة، وعسى أن يُكتب له هو الآخر أن يحظى بالوصول، فليس فى الدنيا نعيم يعدل لحظة الوقوف على باب الحبيب:
«يا رايحين للنبى الغالي..هنيالكم وعقبالي..
يا ريتنى كنت وياكم.. واروح للهدى وأزوره
وأبوس من شوقى شباكه.. وقلبى يتملى بنوره
واحج وأطوف سبع مرات.. وألبى وأشوف منى وعرفات».
التصوف من صوت النقشبندى إلى مقامات العابدين
كتبت – عبير على
نشأت الصوفية فى مصر امتدادًا طبيعيًا لروحٍ قديمة، ليجد التصوف فى أرض مصر التربةً، لعاطفة التى لا تهدأ من قلوب تؤمن بأن الطريق إلى الله ممهد بالحب، والزهد، والصبر، والسفر الطويل فى ممرات النفس المتطلعة للتحليق فى سماوات العشق الإلهي.
فى كتابه «التصوف فى مصر إبان العصر العثماني» يعود بنا الدكتور توفيق الطويل إلى الجذور الأولى لفكرة التصوف على أرض مصر: «عرفت مصر الزهد والتنسك من قديم الزمان، وقد كثر وجود الزهدة والعباد فى مصر كان هذا هو أصل التصوف – فيما يقول ابن خلدون – وكان عامًّا فى الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا فى القرن الثانى للهجرة وما بعده، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة»..وكان ذو النون المصري، ابن صعيد مصر المولود بمدينة أخميم فى عام 179 من الهجرة، وفقًا لكتاب شمس الدين الذهبى «سير أعلام النبلاء»، شيخ الديار المصرية حينئذ، من أوائل من نطقوا بلسان التصوف، وتحدّثوا عن «الوجد» و»الحال» و»المقام».
الإنشاد.. من رحم التصوف
ولا يُذكر تاريخ التصوف على أرض المحروسة دون أن يخرج من نسج الكلام حديث لا يقل ثراءً عن فن الإنشاد الدينى الذى انطلق من عباءته إلى عوالم أخرى موازية وملازمة، فالإنشاد كان ولا يزال مقامًا من مقامات العشق الإلهي، وسبيلاً يعبر به العاشقون إلى رحاب النور، فعلى ضفاف النيل، وُلد الإنشاد كفن نقى مزج الكلمة الطاهرة باللحن السماوي.. فى مقدمة كتابها «فن الإنشاد الديني» تشير الكاتبة مروة البشير إلى أن مصر هى أول دولة فى العالم عرفت الإنشاد الديني، وهو الإنشاد المصاحب للطقوس والعبادات وإقامة الشعائر والصلوات داخل المعابد عبر مجموعة من الترانيم تستند لنصوص دينية، وكانت أشهر هذه الأناشيد على الإطلاق للملك الفِرعون إخاتون، كما ظهرت بعض النصوص والترانيم الجنائزية منقوشة على جدران بعض المعابد وتوابيت الموتي، وتوضح الكاتبة أن الباحثين لم يتوصلوا إلى الطريقة التى تؤدى بها تلك الترانيم، إلا أن المرجح أنها كانت تؤدى بطريقة الإلقاء أو التلاوة.
ومنذ فجر الإسلام، وتحت ظلال المآذن العتيقة سكنت التلاوة والابتهال وجدان المصريين، فأخذوا يبثون وجدانهم فى نغمة، وحنينهم فى مدحه، حتى أصبح الإنشاد طقسًا روحيًا لا يُضاهي، يتلوه المُحب فى خلوته، ويردده الجمع فى حلقات الذكر، ولم تكن مصر بمعزلٍ عن هذا التيار، بل كانت موطنًا خصبًا لتطوره، بدءًا من التواشيح فى المساجد، وحتى حلقات الذكر فى زوايا المتصوفة، مرورًا بالاحتفالات الدينية الكبري، مثل المولد النبوى وموالد الأولياء.
وارتبطت نشأة هذا الفن بتلاوة القرآن الكريم، إذ بدأ المؤذنون بإدخال مقامات صوتية مميزة فى الأذان، ثم تطورت هذه المهارات الصوتية إلى ما سُمّى لاحقًا بالتواشيح الدينية، التى تعتمد على الجماعية، والتناغم الصوتي، والتلوين اللحني، وغالبًا ما تُستهل بمدح النبي، أو تمجيد صفات الله، أو البكاء على ذنوب النفس.
ومع انتشار الطرق الصوفية، أصبح الإنشاد سلاحًا روحيًا للزهاد والسالكين.. كان الشيخ الصوفى يُلقن أتباعه أذكارًا وأناشيد تعبر عن المحبة الإلهية، وعن حيرة العارف فى حضرة الجمال.. هنا بزغت أسماء كأبى العزائم، والمرسى أبو العباس، وابن الفارض، الذى تحولت أشعاره إلى أهازيج تتغنى بها الأرواح قبل الألسنة.
وفى النصف الأول من القرن العشرين، بلغ الإنشاد الدينى ذروته، حين ظهرت أصوات حفرت أسماءها فى ذاكرة المصريين والعالم الإسلامي.. يأتى فى مقدمتهم الشيخ على محمود، ذلك الصوت الملائكى الذى كان يؤم المصلين إمامًا ومنشدًا، ومَن تتلمذ على يديه صاروا أعلامًا، مثل الشيخ طه الفشني، صاحب الصوت الرخيم الذى زاوج بين العذوبة والقوة، والشيخ نصر الدين طوبار، الذى حوّل الدعاء إلى سفرٍ فى عالم الطمأنينة.. الشيخ سيد النقشبندي، «أستاذ المداحين»، صاحب الصوت العاصف الذى إذا ارتفع خاشعًا خشعت معه قلوب السامعين، فكان صوته كأنه قادم من سماء، يحمل بين طبقاته كل مقامات العشق، ويُبكى من فى قلبه ذرة حنين، حتى أصبح صوت المنشد جزءًا من ملامح البيت المصري..انتقل الإنشاد من الزوايا والمآذن إلى المسارح الكبري، لكنه لم يفقد طابعه الروحي.. ظهر جيل جديد حافظ على الأصل وأضاف إليه، مثل ياسين التهامي، الذى أعاد للموالد بهجتها القديمة.