أكمل الرئيس الأمريكى «بايدن» عامه الثالث فى البيت الأبيض فى العشرين من يناير الماضي، ويعيش الآن عامه الرابع والأخيرة فى فترة رئاسته الحالية، انتظاراً للانتخابات الرئاسية الجديدة فى نوفمبر القادم.
ويزمع بايدن خوض تلك الانتخابات باسم حزبه الديمقراطى للحصول على فترة رئاسية ثانية، فى مواجهة خصمه الجمهورى «ترامب»، الذى يسعى بقوة لمنافسته، والعودة إلى البيت الأبيض من جديد، بعد أن حرمه الناخبون فى انتخابات ٠٢٠٢ من فترة رئاسية ثانية.
الولايات المتحدة هى رئيس مجلس إدارة العالم، وهى التى تتولى الانفراد بقيادة النظام العالمى القائم منذ سقوط المعسكر الاشتراكى وتفكك الاتحاد السوفيتى فى مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولاتزال فى موقعها هذا حتى إشعار آخر.
وهذا الموقع، يفرض على أى قوة تتولاه أن تدير شئون العالم من خلال مؤسساته الشرعية وفى مقدمتها الأمم المتحدة، بمشاركة وتوافق أعضائها جميعاً، كبارهم وصغارهم، وبموجب ميثاقها الذى يعزز قواعد القانون الدولى ومبادئ حقوق الدول والشعوب، وذلك لخدمة ومصلحة كل شعوب العالم بلا استثناء، وبعيداً عن أى تمييز، وليس لخدمة مصالح هذه القوة وحدها، أو أى قوة أخرى منفردة غيرها.
هذا الموقع أيضاً، موقع قيادة النظام العالمي، يفرض على من يتولاه أن يكون سلام وأمن واستقرار العالم هدفه وغايته فى كل ما يقوم به من أدوار، وبصفة خاصة دوره فى قيادة عمليات فض الاشتباكات وتسوية المنازعات بالطرق السلمية، واستناداً إلى قواعد الشرعية الدولية، وأن تكون لديه أجندة واضحة لتحقيق هذا الهدف.
هذا ليس كلاماً إنشائياً، ولا استغراقاً فى الخيال.. هذه روح ونصوص المواثيق التى أنشأت النظام الدولى ومؤسساته بعد الحرب العالمية الثانية، والتى تمثل جوهر هذا النظام، بمثل ما يمثل انتهاكها أو الخروج عنها، خاصة إذا حدث من جانب قيادة هذا النظام، نزعاً لشرعية وجودها فى مركز القيادة، وتهديداً لتماسك هذا النظام واستمراره.
وما يمكن لأى مراقب ملاحظته بقوة، دون حاجة إلى جهد كبير، أن هذا الدور فى قيادة النظام العالمى غاب تماماً عن الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث التى انقضت من رئاسة «بايدن»، وأن ملف السلام العالمى وفض المنازعات بالطرق السلمية وفقاً للقانون الدولى والشرعية الدولية، كان ولايزال الملف الغائب عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
إن فترة الرئيس بايدن، لم تشهد حتى الآن، نجاحاً واحداً فى اختراق وتسوية أى صراع دولى أو إقليمى بالطرق السلمية.. بل على العكس تماماً، فإن دور الولايات المتحدة خلال تلك الفترة كان إشعال الحرائق، سواء بنفسها مباشرة، أو من خلال وكلائها وحلفائها، أكثر مما ساهمت فى إطفاء أى حريق.
خريطة العالم أمامنا.. شاهد على ذلك.
> من الذى أشعل الحرب بين روسيا وأوكرانيا فى فبراير ٢٢٠٢ وهز كيان أوروبا واستقرارها السياسى والاقتصادى والاجتماعي، وأدخل المجتمع الدولى كله فى نفق مظلم من الأزمات الاقتصادية لم يخرج منه حتى الآن؟!
ومن الذى حرض أوكرانيا على وقف المفاوضات السلمية مع روسيا بعد أن اقتربت من الاتفاق، وأغدق عليها بمساعداته المالية والعسكرية للاستمرار فى الحرب التى دخلت عامها الثالث هذا الأسبوع؟!
لقد زحفت الولايات المتحدة بحلف الأطلنطى العسكرى إلى تخوم روسيا بعد أن أزعجها تعافى الدب الروسى من أزمة تفكك الاتحاد السوفيتى ومعسكره لصالح الغرب، لتفرض حصاراً عسكرياً يهدد الأمن القومى الروسي، ورفضت مطالب موسكو وقف هذا الزحف، وعروضها للتفاوض وتسوية الأمر بالطرق السلمية، ليصبح الرئيس بوتين أمام خيارين لا ثالث لهما.. إما الخضوع للإرادة الأمريكية والقبول بوجود حلف الأطلنطى على حدوده المباشرة، أو التحرك العسكرى لوقف هذا التهديد.
لم تتقدم الولايات المتحدة بمبادرة سلام واحدة يمكن قبولها أو التوافق عليها، وأحبطت كل المبادرات الدولية من الصين ومن غيرها.. كانت تحرض أوكرانيا على الرفض، ثم تقول للعالم، إن قرار القبول أو الرفض فى يد أوكرانيا بلا تدخل منها.
> من الذى أشعل الصراع فى شرق آسيا، ويسكب عليه كل يوم المزيد من الزيت، بين الصين وتايوان، وبين الصين واليابان، وحول مياه مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبى إلى منطقة مواجهة تقترب كل يوم من حافة الهاوية.
لقد حولت السياسة الأمريكية خلال رئاسة بايدن أطراف هذه المنطقة إلى خصوم يشعر كل طرف بأن الآخر يناصبه العداء ويمثل تهديداً له، وقامت بتغذية هذه الحالة مع تايوان ضد الصين، بالتسليح والتعامل المباشر معها دون مرور على بكين، ومع اليابان أيضاً التى اتجهت لأول مرة فى تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية إلى اعتماد أكبر ميزانية دفاعية تأهباً للدفاع عن نفسها ضد تهديد صينى وهمي.
بل وقامت السياسة الأمريكية بطرح أشكال من الشراكات والتحالفات العسكرية التى تزكى روح الصراع والحرب أكثر مما تسعى للتنمية والبناء والسلام.
> من الذى تسبب فى دفع الفلسطينيين فى غزة إلى الخيار الأخير، وهو القيام بعملية طوفان الأقصى ضد إسرائيل وتشجيع إسرائيل على الرد بحرب إبادة جماعية، أغدقت على إسرائيل خلالها كل ما طلبته من أسلحة ومعدات عسكرية متطورة، وقامت بـ «تثبيت» كل الأطراف الإقليميين المحتمل تحركهم ضدها، بنشر مدمراتها وحاملات طائراتها فى مياه البحرين الأبيض والأحمر، ثم استخدمت حق الفيتو فى مجلس الأمن لمنع صدور أى قرار بوقف إطلاق النار حتى تحقق إسرائيل كل أهدافها المعلنة من الحرب.
إن ما دفع الفلسطينيين فى غزة إلى خيارهم الأخير، هو أن «بايدن» وضع قضيتهم فى الثلاجة، وأن ما تشدق به خلال زيارته الوحيدة للمنطقة من شعارات لم يتحقق منها شيء، وأن العالم يكاد ينسى قضيتهم وحقوقهم، ولا ظهير آخر لهم يمكن أن يساعدهم على إحيائها فى ضمير المجتمع الدولى من جديد.
هذه أكثر بؤر العالم سخونة خلال فترة رئاسة «بايدن»، لم يضبط الرئيس الأمريكى فى أى منها متلبساً بالحديث عن السلام أو التبشير به، بل كان يمضى فى الاتجاه المضاد.. إشعال الحرائق كما قلت وليس إطفاؤها.
وأى حديث حول حل الدولتين من جانب الولايات المتحدة ليس سوى تكرار ممل لما سبقه، وبهدف استهلاك الوقت لا أكثر، واستدراج القضية والمنطقة من جديد إلى الطريق المسدود الذى لا يملك مفتاحه أحد سوى إسرائيل، التى أعلن رئيس وزرائها ومعظم أعضاء حكومته صراحة أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية تحت أى ظرف.
>>>
هذا لا يعنى أن البديل المحتمل فى البيت الأبيض أفضل وهو الرئيس السابق ترامب، فهو الذى أشعل الحرب التجارية مع الصين، وهو الذى منع مسلمى عدة دول من دخول الولايات المتحدة، وهو صاحب قرار نقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وهو القرار الذى تحاشى أسلافه من الرؤساء الأمريكيين إعلانه تجنباً لإغضاب العرب، بل وجاء إلى المنطقة ليقبض الثمن.
المشكلة فى جوهر السياسة الأمريكية الممتدة عبر السنين، وهى الاستناد إلى قانون القوة وليس إلى قوة القانون، فى تعاملها الدولي، مع أنها فى المرات القليلة التى جربت فيها مساعى السلام حققت مكاسب كبيرة من وراء ذلك، سواء مع الصين فى عهد نيكسون ودبلوماسية «البنج بونج» أو فى الشرق الأوسط فى عهد كارتر وتوقيع أول اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل فى الشرق الأوسط.
السلام، هو الحل الوحيد والمؤكد لكل ما يواجهه العالم من تحديات تقليدية أو مستجدة، من أزمات الغذاء والتنمية المستدامة، وحل مشاكل الديون ومواجهة تغيرات المناخ.. بينما إشعال الحروب هو ما يدمر كل ذلك.