لاشك أن الجميع ظل كثيراً يهلل للعولمة استبشاراً بالرفاهية والتقدم ثم اكتشف العالم أن العولمة الاقتصادية تحديداً أصبحت أشبه ببيوت العنكبوت فى عالم متعدد الازمات فقد تمنى الجميع فى دول العالم وتطلع الكثير الى نظام متعدد الاقطاب لتخفيف الاضرار التى عانى منها العالم على الصعيد السياسى والاقتصادى ومختلف الصعد الاخرى لكن الواقع الذى نعيشه هو اننا بصدد عالم متعدد الأزمات وأن الخطوات التى يمكن أن تؤهل لنظام عالمى متعدد الأقطاب شديدة البطء والتنمية الاقتصادية غير المتكافئة فى مختلف أنحاء العالم قد تؤدى بصورة متزايدة إلى التطرف والى حالات النزاع التى تهدد الحياة فى نهاية المطاف كما يمكن أن تؤدى الاتجاهات السلبية فى التنمية الاقتصادية الى تكثيف الاختلالات القائمة التى تسهم بدورها فى تزايد التهديدات والتحديات التى تواجه الأمن والتنمية الاقتصادية المستدامة عالميا ولذلك هناك نموذج من التكتلات العالمية التى تدعو إلى الوحدة بدلا من الانقسام والتعاون بدلا من الصدام والاندماج بدلا من الانفصال والتحذير، وقد لا نرى ذلك فى ظل امساك أمريكا والغرب بالعديد من خيوط الواقع السياسى والاقتصادى رغم تلك الثقوب التى أوجدتها الاحداث الاخيرة خاصة مع الممارسات الروسية فى سوق النفط والغاز ووضع أوروبا فى مأزق وأزمة غير مسبوقة فيما يتعلق بالطاقة وما نتج عن ذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية جعلت بعض مكونات العولمة الاقتصادية كخيوط العنكبوت.
«وطرحت سؤالا مهما.. هل مازال العالم يحتاج الى العولمة وخصوصا الاقتصادية».
والمتابع لحلبة الصراع فى الحرب الروسية – الأوكرانية يلاحظ أن كلاً من روسيا من جهة وأوروبا من الجهة الاخرى ومعها امريكا يراهنان على الزمن لحسم الصراع وهو أمر يعنى بالفعل سيرا على جسد العالم وروحه اقتصادياً وسياسياً.. فروسيا مثلا تراهن على انتهاء الحرب فى اسرع وقت قادم بعد الاستيلاء على المواقع الاستراتيجية الأوكرانية واهمها باخموت وامكانية الدخول فى مفاوضات وحوار سياسى لتسوية القضية من خلال وجهة نظرها للخروج من دوامة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها ولتعويض خسائرها الاقتصادية التى ترتبت على دخولها هذه الحرب حتى بعد محاولات أوكرانيا دخول بعض القرى الروسية، أما أمريكا وأوروبا فيراهنان على إطالة زمن تلك الحرب بما يؤدى الى مزيد من الخسائر واستنزاف روسيا اقتصادياً لتتحقق خسائرها عبر الاسلحة التقليدية والعقوبات الاقتصادية، دون الدخول فى دوامة استخدام السلاح النووى لذلك فالسيناريو الأسوأ هو استمرار الآثار السلبية على الاقتصاد العالمى المرتبطة بالرهان الامريكى على اطالة أمد الحرب واستنزاف العالم .
وتستمر ازمة الطاقة وتداعياتها على معدلات التضخم والتى ضربت العالم كله.
والسؤال التالى ماذا لو قررت روسيا بالفعل استخدام السلاح النووى سواء تكتيكياً او من خلال حرب شاملة وهنا سوف تكون النتائج كارثية على الاقتصاد العالمى ولا يمكن تصورها من خلال قراءة هذه السطور على وجه الدقة.
دلالات البحث عن الخروج الآمن
من الطبيعى أن أمريكا وأوروبا لا ترغبان فى أن يتطور الصراع مع روسيا مما يجعل الاخيرة تندفع الى استخدام السلاح النووى بأى صورة من صوره لكنهما يفضلان اطالة أمد هذه الازمة فى اطار الاسلحة التقليدية ولكن هذا الوضع يستلزم معالجات لازمة الطاقة وانتزاع ورقة النفط والغاز نهائياً من روسيا فى ادارتها لهذا الصراع وهو أمر غاية فى الصعوبة .
ولكن اذا نجح الغرب فى تأمين امدادات الطاقة الى الاسواق العالمية بما يسمح لاسعار النفط والغاز أن تكون بأسعار مقبولة مما يدفع التضخم الى الهبوط وهنا سيصبح من السهل التعامل مع بقية أجندة الازمات التى يعيشها الاقتصاد العالمى.
لقد سنحت فرصة لامريكا فى التوصل لاتفاق مع ايران حول برنامجها النووى ليدخل النفط الايرانى على خط بدائل النفط الروسى بجانب رفع العقوبات عن فنزويلا فى وقت أخذت فيه الصين المبادرة فى التقريب بين ايران والمملكة العربية السعودية لاعادة الهدوء الى المنطقة وتأمين المعروض النفطى فى محاولة للسيطرة على التضخم العالمى خلاصاً من العولمة الاقتصادية التى جلبت التشديد النقدى والتضخم وتعطيل الاستثمارات .
ان «بيت القصيد» قال عنه صندوق النقد الدولى الذى اتفق مع توقعات المحللين والمعنيين بشأن الاقتصاد الدولى حول اسباب تراجع معدلات النمو وارتفاع معدلات التضخم فالتشرذم السياسى يمثل عاملاً مهما فى المستقبل الملبد بالغيوم ويشكل واحداً من التهديدات القائمة بشأن الازمة الاقتصادية .
لاشك ان الامر لا يحتاج الى شرح لتلك السلسلة المعقدة من حيث السبب والنتيجة فكون الحرب الروسية الأوكرانية قائمة ولا يرى أحد لها حلا سياسيا أو عسكريا فى الأجل القصير فمعنى ذلك ان مشكلة الطاقة مستمرة وستظل مشتعلة وعاملاً اساسياً و مغذياً لاستمرار موجات التضخم و جاء تخفيض انتاج «الاوبك +» ، وايضاً روسيا لانتاج النفط ليعمق المشكلة ونظل فى دائرة أكذوبة العولمة الاقتصادية
كما أكدت الحرب فى غزة تغيير ديموجرافية المفاهيم نحو العولمة ومصيرها بعد الانحياز الكامل من الولايات المتحدة الأمريكية لاسرائيل والمشهد العالمى يتشكل من جديد واستغنت الصين عن سياسة منتصف العصا وبدأت فى جذب الجنوب العالمى باستثمارات للقارة الأفريقية تقدر بـ 50 مليار دولار خلال ثلاث سنوات مقبلة وعلى أمريكا صاحبة دبلوماسية اللحظات الأخيرة أن تلحق بها فالدعم الكلى لاسرائيل من أمريكا جعل كفة الميزان تكسر حاجز العولمة الواهية .
لقد كانت رمية العولمة فى قلب الدول النامية والصاعدة وأصبحت المديونية العالمية الخاصة بالدول النامية او الأقل نمواً تتزايد مهما كانت مخصصات الرعاية الاجتماعية لمواجهة التضخم وموجاته العالية غير ذى جدوى ما لم تتم معالجة الاسباب التى أدت الى تراجع النمو الاقتصادى العالمى .
ويبدو جلياً أمام الجميع أن هناك تحديات تعوق تحقيق تعاف جيد للاقتصاد العالمى طالما هناك تأجيج فعلى لازمة الطاقة والغذاء وسلاسل الامداد والتهديد الحقيقى لحركة الملاحة والتجارة العالمية، فالعالم يعيش مرحلة غير مسبوقة من التضخم وتسعى السياسات النقدية فى العديد من الدول لكبحه الا أن الخطر الاكثر تهديداً هو ان يتحول تباطؤ النمو الى ركود وهو ما قد يحدث بالفعل وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها التى وضعت السم فى العسل بما يسمى العولمة التى ضربت وجوديا وقد صرحت «كريستيا لينا جورجينا» مديرة صندوق النقد الدولى بأن المتوقع ان يخسر الناتج الاقتصادى العالمى 4 تريليونات دولار حتى عام 2026 بسبب تزايد خطر الركود ، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن العولمة الاقتصادية وما جلبته للدول خصوصاً العربية من منافع ومسالب فى ظل الاوضاع الجديدة .
فالعولمة الاقتصادية تعنى نشر القيم الغربية فى مجال الاقتصاد مثل الحرية الاقتصادية وفتح الاسواق وترك الاسعار للعرض والطلب وعدم تدخل الحكومات فى النشاط الاقتصادى وربط اقتصاد الدول النامية بالاقتصاد العالمى.
وهذا يعكس زيادة حركة رءوس الاموال وتفسح المجال واسعاً امام اصحاب رءوس الاموال لجمع المزيد من المال وهناك تعريف آخر يعبر عن الحالة السانحة الا وهى تحول العالم الى منظومة من العلاقات الاقتصادية المتشابكة التى تزداد تعقيداً لتحقيق سيادة نظام اقتصادى واحد يتبادل فيه العالم الاعتماد بعضه على بعضه الآخر فى كل من الخامات والسلع والمنتجات ورءوس الاموال العمالة والخبرة حيث لا قيمة لرءوس الاموال من دون استثمارات ولا قيمة للسلع دون أسواق تستهلكها .
«ولا شك أن العولمة الاقتصادية هى الأكثر اكتمالا وتحققاً على أرض الواقع من العولمة الثقافية أو السياسية وبالنظر على أهداف العولمة الاقتصادية وهل تحققت ؟، نرى منها اهداف المؤيدين للعولمة بالطبع هى اهداف جاذبة فى شكلها ولكن طالتها خيوط العنكبوت .
أولاً: أن العولمة تهيئ الفرص للنمو الاقتصادى على المستويين المحلى والعالمى .
ثانياً: العولمة تزيد من حجم التجارة العالمية وتنعش الاقتصاد العالمى .
ثالثاً: أن العولمة تقرب الاتجاهات العالمية نحو تحرير اسواق التجارة ورأس المال علماً أن الهدف يعنى عولمة الاقتصادات العالمية وصبغها بالرأسمالية .
رابعاً: من المفترض أن تحل العولمة المشكلات الانسانية المشتركة التى لا يمكن ان تحلها الدول بمفردها مثل انتشار اسلحة الدمار الشامل والمخدرات وقضايا البيئة .
وكان من الطبيعى ان يتبنى المتفائلون والهيئات هذه الاهداف وكذلك المنظمات الرئيسية التى تلعب دوراً مهماً فى العولمة الاقتصادية كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية لكنها لم تتحقق على أرض الواقع نظراً لعدم التزام المنظمات الدولية بها أصلاً .
والهيمنة التى تبديها الدول الرأسمالية على هذه المنظمات تتعارض مع هذه الاهداف المعلنة.. فرفع مستوى المعيشة وزيادة الدخل يعارض سياسة ازالة دعم السلع المعيشية أو زيادة الضرائب او الخصخصة وما يترتب عليها من بطالة ولكن الحقيقة التى يراها معارضو العولمة وهى موجودة بالفعل على أرض الواقع إن العولمة لها أهداف خفية تتمثل من هيمنة الدول الرأسمالية على الاقتصاد العالمى باستخدام اساليب كثيرة كالشركات متعددة الجنسيات والبنك الدولى وصندوق النقد الدولى وفرض توسيع النظام المصرفى وربط اقتصادات الدول النامية باقتصادات الدول الرأسمالية والسيطرة على الدول بقصد استغلال ثرواتها والقضاء على الهوية الثقافية والوطنية للانسان وتغيير مفهوم الاسرة القائم على القيم الاجتماعية واضعاف دور الدولة هكذا يرى معارضو العولمة .
وكان لزاماً علينا ونحن بهذا الصدد أن نناقش ماذا فعلت العولمة بالعالم العربى
أولاً: تزايد تبعية الاقتصاد النامى للاقتصاد العالمى مما يعنى أضعاف الأمن الاقتصادى بسبب تأثر الاقتصادات الوطنية بتقلبات السياسة الخارجية .
ثانياً: تزايد التفاوت فى الدخول .
ثالثاً: التأثير على الميزانية العامة فى الدول العربية بسبب خفض التعريفة الجمركية على المنتجات المستوردة .
رابعاً: تعرض القطاعات الاقتصادية السلعية والزراعية والصناعية والخدمية والخدمات المالية والاتصالات والنقل والتوزيع وغيرها لهجمات تنافسية من السلع والخدمات المستوردة من الدول المتقدمة مما يؤدى لاخفاء الصناعات غير القادرة على المنافسة.
خامساً: أن إلغاء الدعم الزراعى وتطبيق برامج الاصلاح الزراعى فى البلدان الصناعية والتقدمية يؤدى الى ارتفاع اسعار السلع الزراعية الغذائية وينعكس ذلك سلباً على موازين المدفوعات فى الدول العربية خاصة التى تستورد الغذاء .
سادساً: تفشى البطالة وزيادة عدد الفقراء والتخلف الاقتصادى والجريمة المنظمة .
سابعاً: تشجيع الاستثمارات غير المنتجة التى تدر أرباحا فقط .
ثامناً: تصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للدول العربية .
وغيرها من الانعكاسات السلبية لآثار العولمة على العالم العربى ولذلك لابد من العمل على فهم العولمة و التعامل معها عربياً وعدم التسرع فى اتخاذ القرارات والحذر الشديد فالعالم وقع فى خيوط العنكبوت كما قلنا واعادة هيكلة المنظومة العربية ككتلة واحدة تستطيع ان تتابع المعطيات والمتغيرات والنتائج .
العولمة بدون وصاية
لقد فرضت العولمة العديد من التحديات على مختلف دول العالم خاصة الدول النامية واذا كنا ننظر للعولمة بحذر شديد فإن البعض يراها وحشاً كاسراً يتربص بالاسواق المحلية فى محاولة من الدول المتقدمة لفرض وصايتها على الدول النامية خاصة فى ظل امتلاك تلك الدول المتقدمة لمصادر التكنولوجيا الحديثة.
ومجمل القول اننا نستطيع أن نقول ان الدول النامية والناشئة والعالم العربى هو اول المتضررين من نظام العولمة وان العالم متعدد الاقطاب لا متعدد الازمات هو «الافضل» فقد عانت دول العالم غير القوى الكبرى من نقص السلع الرأسمالية والتكنولوجية ويرجع السبب فى ذلك الى التقسيم الذى قامت به الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية والذى اتسم باللا تكافؤ لصالح الدول المتقدمة .
لقد أخرت العولمة فى كثير من الدول التخطيط لمشاريع البنية التحتية ذات النفع العام مثل الكهرباء والمواصلات والنقل وساهم ذلك وتأخره فى تأخر وعرقلة النهضة الصناعية فى عدة دول .
كما تسببت آثار العولمة فى نقص الموارد المالية لدعم الصناعات حيث اتسمت كثير من الدول النامية بالاحتياج وقلة توافر الموارد التى تدعم قيام المشروعات ، وهنا نستطيع القول ان العولمة تعنى ابقاء الدول النامية فاقدة السيطرة على استثماراتها من خلال زيادة الشركات متعددة الجنسيات برغم اهميتها وتكون هى المسيطرة عليها وعلى اقتصادها وتعمل على منعها من تطوير استراتيجيات لتصحيح الاختلال وتدارك القصور بالاضافة الى بعض البرامج التى وضعتها منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولى والتى ساهمت فى احداث آثار سلبية على الاقتصاد فى البلدان النامية .
لقد اصبحت الدول النامية بسبب العولمة غير قادرة على احداث نمو حقيقى بسبب الهزات الشديدة القوية التى يتعرض لها العالم بسبب الاحداث الاقتصادية العالمية فتحرير الخدمات المالية والمصرفية والتجارية قد أثر بشكل كبير على صعيد زيادة الدخل من العملة الصعبة اذن فالعولمة لم تأت بأحسن ما عندها والمطلوب منها ولكن عملت على تحقيق اهدافها الخفية فى السيطرة والهيمنة .
وها نحن نرى اليوم «سيد الكرملين» يقول ان عقيدة روسيا الجديدة فى نسخة محدثة من العقلية السياسية الدولية لروسيا من اجل انشاء نظام عالمى جديد مبنى على العلاقات الدولية الهند والصين شريكان .
العالم يتغير فى لحظات والبوصلة السياسية تتغير وهناك تحالفات تتشكل وتغيرات ولا يستطيع أحد قراءة الاحداث او الاستنتاج الصحيح لها .
الإبحار بعيداً عن الخطر
أما عن الشأن المصرى فقد استطاعت مصر خصوصاً بعد ثورة 30 يونيو «الابحار بعيداً عن الخطر» بكسر احلام قوة الهيمنة فى مشروع الشرق الاوسط الجديد وترى ان العولمة الحقيقة هى فى جذب الاستثمارات الى القطاعات المختلفة زيادة النشاط التجارى الدولى وسمحت بتحريك الكفاءات البشرية واعتماد سياسة التخصص فى الانتاج والحصول على التكنولوجيا المتقدمة ولم تقع مصر فى براثن الخلط بين الصراع بين الايدلوجيا والتكنولوجيا او فقدان التوازن فى اى صورة وايضاً استطاعت التخلص من اى تبعية اقتصادية» او ازدواجية فى المعايير او اذابة الهويات والخصوصية.
فاحتفظت لنفسها بمصادر القوة والصلابة الاقتصادية التى تجابه بها الأزمات.