يأتى شهر رمضان قديما على قرى أسوان الفقيرة ليجد البيوت غارقة فى الصمت والظلام ليلاً، «رمضان أقبل يا أولى الألباب.. فاستقبلوه بعد طول غياب» بهذه الكلمات الطيبة يستقبل الناس شهر رمضان الفضيل، قبل قدومه بأيام يتأهب الأولاد الصغار بعمل فوانيس يدوية تصنع من جريد النخيل أو الخشب ويتم وضع شمعة داخله، كل بيت يضع فانوساً أعلى باب البيت فيضع كل يوم شمعة واحدة، أما الزينة فلا تزيد على وضع بعض الأقمشة أعلى البيوت على هيئة رايات ترفرف مع الهواء وغالبا تكون من اللون الأخضر أو الأبيض، كبير العائلة يقوم بفتح أجولة البلح (السكوتي) الناشف ويوزعه على الأهل والأقارب والجيران ويردد دعاءه المعهود: «رمضان ياخير الشهور… وخير بشرى فى الزمان»، كل بيت يأخذ نصيبه، وللبلح السكوتى طعم مميز لايضاهيه أى بلح أخر.
أما النسوة فيجتمعن فى بيت توجد فيه فرن كبيرلصناعة الفطيرالذى يحلو أكله فى هذا الشهر، تتولَّى واحدة منهن عملية تسخين الفرن الطينى من الفُوَّهة السفلية، وأخرى تجلس عند فُوَّهتها العلوية لتضع الفطيرة داخل الفرن ثم إخراجها طازجة، أما بقية النسوة يجلسن أمام الطبالى يفردن العجينة المكورة على الطبلية وطرقها بآلة خشبية وتسمى «النِشَّابة» حتى تصبح العجينة فطيرة رقيقة جدا، وهذه مهارة خاصة ببعض النسوة، صحن الفطير الغارق في»مرقة» لحم الدجاج أو البط له مذاق خاص ومتعة جميلة، وأحياناً يتم تناوله فى وقت السحور غارقاً فى اللبن والسكر، الفطير الرقيق وجوده مُهم فى البيوت خلال شهر الصوم وفى بعض القرى يطلقون على هذه الفطائر اسم «النشَّاب» نسبة الى النشابة التى تطرق العجينة حتى تصبح فطيرة رقيقة ويتم تجميع هذه الفطائر على طبق كبير من الخوص حتى تصبح الفطائر ناشفة ويتم استخدامها خلال أيام الشهر الكريم وكذلك تجهيز العيش الشمسى والملتوت ويتم أيضا تجفيفه فى الفرن مرة أخرى حتى يظل طوال الشهر جاهزا للأكل ويسمى العيش «القرقوش» ويصبح طعمه شهياً وخاصة بعد رش الماء عليه ووضعه فى قماش أبيض للحظات، وأما أقراص الدوكة والتى تصنع من الدقيق المخلوط بالماء ويتم وضعه مفرودا على طاسة كبيرة مصنوعة من الحديد وتوضع على كانون النار ويُحمى أسفله بقطع الخشب الناشفة، وفى بعض القرى يتم صناعة خبز يسمى «السناسن» وهو من دقيق الذرة الرفيعة والقمح معا ويتم عجنهما بالماء ويتم تخميره فى ماجور من الفخار ثم تقطيعه إلى أرغفة صغيرة ووضعها فى الفرن، يتم أكلها وقت الإفطار مخلوطة بالملوخية الناشفة أو البامية وتعتبر أكلة مهمة وخاصة مع كبار السن وأحيانا يستخدم العيش الشمسى أو الملتوت فى عمل هذه الفتَّة المشهورة فى الصعيد.
«الجبنة» بعد التروايح
أما قبائل العبابدة والبشارية فيقومون بتجهيز مشروب مهم فى شهر رمضان وهو «الجبنَّة» وهو من البن المطحون مخلوط بالحبهان والمستكة وهى تعدل المزاج، يتم وضعها فى «كنكة» من الفخار وتوضع على نار الجمر وتصب فى فنجان صغير، ويتجمع الرجال فى المندرة بعد صلاة التراويح ويشربون الجبنة وهى المشروب المفضل لديهم.
قبل دخول الكهرباء لهذه القرى المتفرقة والبعيدة عن المدينة لم توجد بها أية وسيلة إعلام لتؤكد لهم قدوم الشهر الكريم، ليلة استطلاع الهلال يجتمع الرجال بعد صلاة العشاء أمام دار العمدة فى انتظار الإشارة من المديرية عبر تليفون أرضى خاص بالعمدة، عندما يتم تأكيد ميلاد الهلال يهنيء الرجال بالشهر الكريم ويكبرون فى صوت واحد ويهنئون بعضهم البعض ثم ينطلق موكب الرجل المسحراتى بصحبة الشباب والأولاد الصغار ويطوفون شوارع القرية يهللون وينشدون المدائح النبوية ويتقدمهم شاب يحمل (الكلوب ) فى يده لإنارة الطريق، من داخل البيوت تأتيهم زغاريد النسوة وبعضهن تخرج وتمنح الصغار البلح الناشف وأحياناً حلاوة (الكرميلا) التى يجلبنها من المدينة، تستعد النسوة لتجهيز وجبة السحور، حكى أحد الكبار أنه ذات عام تأخرت الإشارة عن العمدة ولم يعرفوا مولد الهلال وظنوا أنه لم يلد وأفطرت القرية كلها فى هذا اليوم الأول من شهر رمضان.
كوز الكنافة عند الحداد
وتستعد أيضا النسوة بتجهيز «كوز» الكنافة ويتم صناعته عند الحداد ويكون من الصفيح وبه بعض الثقوب من أسفل، تجهز الأمهات الدقيق المعجون بالماء ويكون رقيقا والطاسة الكبيرة الموضوعة على الكانون، تغمس الكوز فى العجين وتضع أصابعها أسفل الثقوب ثم تمرر الكوز فوق الطاسة سريعا لتصنع كنافة يدوية شهية جدا، ويتم رش السكر عليها والبعض يغرقها باللبن، لم يعرف الناس من الحلويات سوى البلح والكنافة اليدوية والزلابية.
المسحراتى كان رجلاً طويل القامة صاحب صوت جهوري، يستيقظ قبل وقت السحر فهو عليم بدروب القرية يجوب الشوارع والدروب صائحاً « اصحى يانايم.. وحد الدايم» قارعا بقوة على طبلته أو الباز وأحياناً يطرق الأبواب وذاكرا أسم صاحب البيت عندما يشعر أن الصمت والظلام يخيم على البيت، هذا الرجل يحصل على بعض النقود أو الحبوب أو حتى الطيور والبيض فى ختام الشهر فى صورة هدية من أهالى القرية لإطعام أولاده ودور المسحراتى كان مهما فى ذلك الوقت لإيقاظ الناس لتناول وجبة السحور.
طبلية واحدة
وهناك مشهد مهم قديما وهو مشهد «المَدَّة» حيث يتجمع الآباء والأعمام برفقة الصغار أول يوم فى الشهر قبل المغرب، تجهِّز الأمهات فى البيوت مائدة طعام تحوى الطبيخ والخبز واللحوم، يحمل الآباء «الطبالي» فوق رؤوسهم ويتوجهون بها إلى الفسَحَة الواسعة بجوار مندرة القبيلة ويحمل الصغار أطباق البلح المنقوع فى الماء ودورق العصير، وغالباً يكون عصير الليمون أو الكركديه أو العرديب، تصطف الطبالى على الأرض فى مشهد مُفرح ويقوم العم الكبير بتجميع اللحوم فى طبق كبير، عندما ينطلق آذان المغرب نأكل البلح ثم نشرب العصير بعدها نبدأ فى تناول الطعام، ليس بالضرورة أن تجلس على الطبلية الخاصة بك، المهم أن تجلس وتأكل على أية طبلية، الجميع أبناء عمومة والطبلية واحدة، يمر العم الكبير وكان رجلا ضخم الجسم طيِّب القلب ويمنحنا قطعة من اللحم ويقول بصوته الجهورى «كل عام وأنتم بخير»، أهم مايميز هذا المشهد صفاء القلوب ونشر المودة وكأنَّ الجميع يأكلون على مائدة واحدة ومن طبق واحد، لم يكن أكل الطعام هو الهدف وإنما التجمَّع وتهنئة بعضنا البعض بقدوم الشهر الكريم، يتكرر هذه المشهد فى آخر الشهر ليلة العيد بكل تفاصيله، اختفى للأسف هذا المشهد حاليا باختفاء الكبار، أما كبير العائلة يحمل مائدة الإفطار يوميا ويذهب إلى مندرة العائلة ربما يأتى له أحد العابرين من الغرباء ليتناول معه طعام الإفطار لأنه قديماً كان الناس يتنقلون بين البلاد سيراً على الأقدام، وكذلك أهالى القرية يقدمون طعام الإفطار إلى أفواج (الجلابة) وهم رجال يسوقون أعداد من الإبل قادمة من بلاد السودان متجهة إلى الشمال، فتبرك الإبل شرق البيوت قبل أذان المغرب وعندما يراها أحد أبناء القرية يذهب لإخبار الناس بوجود (الجلابة) شرق البلد فيقدمون لهم طعام الإفطار.
ماء البلح
قبل أذان المغرب يتجمع الصغار بجوار المسجد فى انتظار رفع الأذان حيث يصعد المؤذن إلى مئذنة المسجد ويتابع لحظة غروب الشمس وبعد الغروب بدقائق ينطلق بصوته الجهورى «الله أكبر.. الله أكبر» حينها يجرى الصغاروتبتلعهم الشوارع الضيقة والدروب صائحين «أفطر يا صايم، أفطر يا صايم «ويصيحون أحيانا» ياصايم رمضان ياعابد ربك.. الخير حيجيلك من طاعة ربك «، كل واحد يدخل بيته، يجدون الطبالى وعليها طبق البلح المنقوع وعصير الليمون، يأكلون ويشربون بالرغم من أنهم ليسوا صائمين مثل الكبار الذين يحبون احتساء ماء البلح، أما الصغار دائما لايروق لهم، يشربون عصير الليمون أو الكركديه.
صلاة التراويح تصلى فى المسجد حيث يتوجه الكبار والصبية الصغار إلى المسجد ويؤدون صلاة التراويح يعد صلاة العشاء، ودائماً تكون عشر ركعات وبعد الصلاة يقوم الإمام بقراءة القرآن ثم الدعاء أن يتقبل الله صيامهم ويقوم أحد الصبية بالمرور على المصلين وتقديم الماء البارد من (زير المسجد) المصنوع من الفخار الذى يعمل على تبريد الماء بصورة طبيعية وكان لصلاة التراويح بهجة ونفحات روحية لما يذكره المصلون من أدعية وتواشيح دينية « أكرِم بباب الصوم فى الأبواب.. لايدخل الريان إلا صائم»
بعد صلاة العشاء والتراويح يجلس الرجال والصبية فى مندرة العائلة بجوار المسجد، يشعلون أنوار « الكلُّوب « الساطعة، يستمعونلقراءة القرآن الذى يتلوه أحد المشايخ بصوته الجميل وأحيانا يلقى عليهم الدروس الدينية أو بعض التواشيح، يشربون الشاى والينسون والحلبة التى يصنعها أحد الشباب على كانون فى ركن داخل المندرة، تطول هذه السهرة حتى منتصف الليل، بعدها يعود الجميع إلى البيوت للنوم، لم تكن هناك أية وسيلة للتسلية، أما النسوة فيخرجن خارج البيوت ليلا ويتجمعن فى مكان فسيح ويتسامرن بالحكايات القديمة فيشعرن ببهجة وروحانيات رمضان، بعدها ينام الجميع ولم يستيقظوا إلا على صوت المسحراتى وقت السحر.
رمضان 3 أقسام
يتم تقسيم أيام شهر رمضان إلى ثلاثة أقسام، العشر الأيام الأولى وهى للعزائم حيث يقوم البعض بإقامة عزومة فى وقت الإفطار لأصدقائه أو محبيه أو أقاربه وأحيانا تكون بين العائلات وهى تعمل على تقوية أواصر الروابط والعلاقات بين الناس وهذه العادة موجودة حتى العصر الحالي، أما الأيام العشرة الثانية فهى تخصص لشراء ملابس العيد للأطفال والصبية، يذهب الكبار إلى المدينة لشراء الملابس والأحذية ومستلزمات العيد، أما العشر الأخيرة فهى تخصص لإخراج زكاة الفطر وصناعة مخبوزات الكعك وهى من الدقيق واللبن والماء تتم صناعته فى آخر الشهر لتناوله أيام العيد وتخرج به النسوة إلى المقابر وتوزيعه ترحما على الأموات أول أيام العيد، وهذا الكعك له أشكال متنوعة أما الطعم فهو واحد وفى آخر أسبوع من شهر رمضان يقوم المصلون بعد صلاة التراويح بأداء طقوس «التوحيش» ويقومون بترديد بعض الأدعية حزنا على رحيل شهر رمضان مثل « أوحشتنا لا أوحش الله منك يا شهر رمضان ثم يا شهر الصيام، وشهر القرآن، تبكى المساجد حين صار مرتحلا، ويتم ختام التوحيش بالدعاء والاشتياق لعودته فى العام القادم.
فى ختام الشهر وتحديداً فى ليلة السابع والعشرين «ليلة القدر» يتولى شيخ المسجد تجميع زكاة الفطر، كل على حسب قدرته سواء حبوب أو طيور أو نقود ويقوم الشيخ بمعاونة بعض الشباب بتوزيع الزكاة على فقراء القرية حتى يفرح الجميع بالعيد وعلى الجانب الأخر يجتمع مشايخ الطرق الصوفية عند أحد أضرحة أولياء الله الصالحين فى هذه الليلة ويقومون بعقدجلسات الذكر والمديح احتفاء بليلة القدر ويوزعون بعض المخبوزات فى صورة كعك مع أكواب الشاى الساخنة والينسون وأحياناً تمتد هذه الجلسات حتى وقت السحور
حناطير »إدفو«
أما فى المدينة وتحديداً فى مدينة »إدفو« المشهورة بعربات «الحنطور» التى تجرها الخيول حيث تتجمع هذه العربات وعدد كبير من الكبار والصغار يطوفون الشوارع عصر أول يوم من شهر رمضان. يقوم أبناء الطرق الصوفية بالإنشاد الدينى والمديح فرحين بقدوم شهر رمضان وفى نهاية الدورة وقبل المغرب يتجمع هؤلاء فى فسحة كبيرة وسط المدينة لتناول وجبة الإفطار التى يقدمها أهالى المدينة لهم ثم بعد ذلك ينصرفون لصلاة التراويح ويقومون بالتهنئة بقدوم الشهرلأهلهم وجيرانهم.
أما العصر الحالي، فتبدو مظاهر شهر رمضان من خلال الاستعداد لقدوم الشهر بتعليق الزينات والفوانيس أعلى البيوت وفى الشوارع، وهناك زينات بالأنوار وكلمات الترحيب بقدوم الشهر الفضيل، وفى المساجد بعد صلاة التراويح تعقد حلقات قراءة القرآن الكريم ومسابقات حفظ القرآن للصبية ومنحهم جوائز وشهادات تقدير، بعض الشباب يقومون بعمل دورات رمضانية فى مراكز الشباب والساحات الواسعة، أما موائد الرحمن فهى عادة أصيلة فى قرى ومدن أسوان، حيث تعقد كل قرية على الطرق العامة مائدة للإفطار يتولى شباب القرية الإشراف عليها بالطهى وتجهيز التمر المنقوع والعصائر والمياه الباردة وتقديمها للعابرين والمسافرين على الطرق العامة، يتم تجهيز حجرة لإتمام عملية الطهى وتجهيز الطعام واللحوم، وبعض القرى تقوم بتكليف العائلات باعداد صوانى الطعام فى البيوت والخروج بها قبل المغرب إلى الطريق العام فى مكان معين وتقديمها للصائمين من العابرين، لا تخلو قرية من قرى محافظة أسوان إلا وبها مائدة على الطريق العام، وأيضا المدن تقوم بعمل موائد قى الميادين الكبيرة وأحيانا إعداد وجبات جاهزة وتوزيعها على المسافرين على الطرق أو أمام المستشفيات، وهذه الموائد تعد ظاهرة ايجابية تعكس نقاء وإيمان الناس وإكرام الضيف.
للأسف اختفت بعض المظاهر والطقوس القديمة بفعل رياح التغيير والتقنيات الحديثة، سيطرت التكنولوجيا على عقول الشباب باستخدام شبكة الانترنت، والتليفزيون أيضا له تأثير داخل البيوت، ولكن تظل أيام وليالى شهر رمضان ممتعة للروح، يفرح الناس بقدومه وينتابهم الحزن على رحيله آخر الشهر.