هو أكبر من فنان له اسمه وشهرته بأعماله التى جعلته فى الصف الأول بين أبناء جيله.. ذلك الشاب المنوفى الأصل والذى اعتبره الكاتب الكبير محمود السعدنى ابنه البكرى وليس أخاه.. وبينما كان الرئيس السادات فى خطاباته يتوعد «محمود» كان صلاح فى مصر يدفع ثمن كتابات أخيه ضد كامب ديفيد.. وكان من السهل عليه أن يسافر.. ولكنه تحمل برجولة تبعات آراء أخيه وما أدراك ما هى حين يكتبها السعدنى الكبير بأسلوبه الملتهب المغلف بالسخرية التى يمكنها أن تهز مقاعد الكبار وكان من السهل أن يحمل «صلاح» حقيبته ويبحث عن أكل عيشه فى بلد آخر.. وكلها تعرف محمود وتفتح أبوابها له على أكبر المستويات صلاح الدين عثمان ابراهيم السعدنى الذى ينتمى إلى جمهورية الجيزة الكبرى التى خلدها «محمود» فى كل كتاباته.
حكى لى عادل امام عن صلاح كثيرا باعتباره رفيق الدرب وأقرب الأصدقاء إلى قلبه.. ويشكل مع سعيد صالح المثلث الانسانى لعادل.. وكيف انه من أصحاب المزاج.. فلا يعمل إلا ما يقتنع به ويدخل نافوخه.
صلاح تعلم من محمود كيف يكون بسيطا وعميقا ومصريا حتى النخاع وأهلاويا إلى درجة الجنون.. حتى قال لى إمام: لا تستغرب إذا ما ترك صلاح الاستديو واتجه يشجع الأهلى فى مباراة للاستغماية يلعبها فى أسوان.. انها صورة تجسد لك فكرة الانتماء لكل ما يحب أو يقتنع به..
ورغم ثقافة صلاح كان يرفض المنظرة أو التجارة بهذه الثقافة ويعتبرها رصيده الكبير الذى يعكسه فى أعماله سواء ارتدى على الشاشة جلباب المراكبى الغلبان الذى يطارد المرض والفقر والجهل.. أو العمدة الذى انحاز إلى أرضه وطينه وعشيرته وناطح الباشا رأساً برأس حتى فى زوجته وإذا اختصرت كيانه وحياته كلها يكفى أن تقول انه «ابن البلد» وفيها صورته التى رسم ملامحها وأوصافها ليس فقط الاقتراب من محمود الكاتب الاستثنائى بل الانتماء إلى عصر كانت فيه «قهوة عبدالله بالجيزة» وزارة ثقافة مصغرة يجتمع فيها كبار كتَّاب البلد على اختلاف أفكارهم وميولهم وأقلامهم.. ومعهم جاء المخرج والممثل والمدعى الذى كان يكفيها فخرا انه شرب الشاى مع زكريا الحجاوى أو عبدالرحمن الخميس أو محمد عودة.. وظلت قهوة عبدالله مدرسة تخرجت فيها أجيال عديدة.
على مستوى الفن
قد يسأل البعض.. رغم وجود عشرات الأفلام فى سجل صلاح السعدنى منها ملف فى الآداب – تحت الصفر – فوزية البرجوازية – ليل وخونة – زمن حاتم زهران – اليوم السادس لكنه شكلا وموضوعا ابن التليفزيون ونجاحه الأكبر تحقق على شاشته الصغيرة.. والسر فى ذلك أنه بدأ أمام كاميراته منذ انطلاق الارسال عام 1960 وانتمى مع سعيد صالح وعادل إمام إلى مسرح التليفزيون الذى قدم معظم ابناء الجيل.
سكن صلاح فى فترة الرئيس السادات وما كتب محمود بعد كامب ديفيد.
وهنا كان «صلاح» معزولاً لا يقترب منه إلا الأوفياء الذين جمعهم به العيش والملح ورحلة اكتشاف الذات وحب الفن.. حتى تدخل عثمان أحمد عثمان وانتهز فرصة زيارة الرئيس السادات لبلد عربى تواجد فيه السعدنى.. وسعى إلى المصالحة.. وحدثت وعاد محمود إلى ارضه وكيانه وقد عاش مصرياً حتى آخر أنفاس حياته لا يخاف إلا الله ورفض أن يتاجر بنضاله ورأيه وكانت الفرصة أمامه لكى يصبح من كبار الأثرياء ويغمض العين والعقل ولكنه رفض.. واستعصم بما يعتبره واجباً تجاه البلد التى ذاب فيها عشقاً.. حتى أنك اذا رايت «صلاح» وهو يؤدى دور حسن ارابيسك.. يختلط عليك الأمر هل هو «محمود».. وهل كان اسامة أنور عكاشة.. يعرف كل هذه التفاصيل التى ستلهب مشاعر صلاح تجاه هذا الدور.. وكان صديقه عادل إمام هو المرشح الأول لبطولة المسلسل.. لكنها ذهبت إلى صلاح وكأنها الأدوات التى تناديه لانها تليق به أكثر من غيره لأنه العالم الذى تطارده العصابة الصهيونية فى مسلسل الاصدقاء وأظن أن كاتبه الكبير كرم النجار أخذ الكثير من حكايات سعيد وعادل وصلاح.. فى المسلسل الذى لعب بطولته محمد وفيق وفاروق الفيشاوى.. مع اختلاف الوظائف والأحداث بحكم الصفحة الدرامية.. والكاتب دائما وابداً عينه على ما يرى ويسمع ويقرأ..
ونفس الرهان حدث مع الكاتب محمد صفاء عامر فى المسلسل حلم الجنوبى الذى لعب صلاح بطولته باقتدار.. ورغم تاريخه الحافل كان من السهل جداً أن يقول لك عن أحد أعماله وأنت تناقشه فيه وتسبق ضحكته الودودة كلماته:
ــ ياعم الله يبارك لك.. ده.. أكل عيش وإن شاء الله تتعوض فى حاجات جاية!.
ورغم أن الفن مصدر رزقه فلم يتعامل معه أبداً على أنه سبوبة يجنى من ورائها ثروة وأبهة..فقد كان بسيطاً فى كل شىء وهذا ما جمع الناس حوله لانه ما فى القلب يعلنه الوجه كأنه شاشة.. مهما حاول الإنسان أن يكذب وأن يتجمل وعندما حققت مسرحيته «الملك هو الملك» نجاحاً غير مسبوق فى مسارح القطاع العام.. كان جوابه.. معايا فرقة لعيبة على أعلى مستوى وأنا حارس المرمى أو رأس الحربة.. حسب ما يرى المدير الفنى أو المخرج.
كان الله فى عون عادل إمام عندما يسمع خبر رحيل صلاح بعد سعيد صالح.. وكان الله فى عون احبابه وجمهوره الذى كان ينظر إليه كواحد من أسرته عمه أو خاله أو ابيه حسب عمره..
الفنان يمضى مثلما سنمضى جميعاً.. ولايبقى من مسيرته إلا سيرته قبل أعماله وبعده.. وصلاح حكاية مصرية خالصة بديعة.. عرف منها الغالبية القليل وفيها الكثير الذى يحتاج مجلدات تكشف لك المعدن الأصيل.. لهذا المفوض الجيزاوى المصرى الذى بلغ القمة.. وهو قابض على جذوره فى الأرض.. منها خرجنا واليها نعود.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.. وبالرحمات نودّع هذا الرمز.. ونسأل الله العلى القدير أن يتغمده بواسع مغفرته وعفوه.. بقدر ما أحب الجميع.. وأحبه الجميع.