عندما يجف النهر ونصل إلى القاع سنجد الصخور وقد ظهرت على حقيقتها وتبدى لنا نتوءاتها وتعرجاتها وما علق بها من أعشاب البحر وفطرياته المتنوعة ، وعندما تتأمل الصورة وتغوص فى تفاصيلها ستكون ستندهش وكلما تعمقت فى التأمل ستتحول الدهشة إلى صدمة ، والسبب هو الهوة السحيقة بين الصورة الذهنية للنهر وصفحته الساحرة الخلابة ومياهه شديدة العذوبة وامواجه الهادئة ، هذه الصورة ترسخت فى ذاكرتك وصار كلمة «النهر» مرادفا جامعا لكل ما هو جميل ، لكن مع جفافه وانحسار مياهه تتبدل الصورة ويتحول الجمال إلى قبح ، والسؤال هنا ، هل هذه الصخور المخيفة فى قاع النهر جديدة او مستجدة او لم تكن موجودة من الأساس؟
>>>
ربما معظمنا سيقع تحت انطباعاته الخاطئة بأن ما يراه امام عينه من صخور غارقة فى طين القاع وعالق بها كل أنواع الطحالب والفطريات فى مشهد غير مألوف شيء جديد تماما ! لكن بقليل من التفكير والتركيز سنجد ان كل ما صدمنا الان عندما رأيناه موجود وراسخ لكن المياه كانت ساترة لتفاصيله ومخبأة لأسراره ، هو موجود لكننا لم نكن نراه ، هو قائم لكن أعيننا لا تصل إليه ، لكن كان من المفترض ان تدرك عقولنا كل شيء، هذه العقول التى آمنت دون أن ترى ، كان يجب عليها أن تبحث فيما وراء الصور البراقة التى تأخذ بعقولنا ، بيد أن ما يخفيه النهر فى أحشائه يفضحه انحسار المياه وظهور الأشياء على حقيقتها ، وعندما يذوب الثلوج وتبين المروج يمكن ان نرى الأشياء على حقيقتها ايضاً.
>>>
فالثلوج التى تمتد لتغطى الارض والسهول والجبال تصنع لوحة ساحرة من اللون الأبيض الثلجى الذى يذيب المشاعر ويجعلها تتمازج وتتمايل فى احضان الطبيعة وكأنها لوزات قطن منثورة على مدد الشوف ، يخفى تحته ما لا يمكن لبصرك ان يصل إلى تفاصيله ولكن فقط يمكن لبصيرتك ان تصل إلى أدق ما حاولت الثلوج اخفاؤه تحت وساداتها الاثيرة ، كذلك الارض بشكل عام تخفى فى باطنها ينابيع من الماء و آبار من النفط والغاز وفى نفس الوقت وفى ساعات الغضب نجد حمماً بركانية وزلازل ارضية تعبر عن زمجرة الطبيعة وغضبها ، وهناك الكثير من الظواهر والمظاهر التى يمكن أن نوردها فى هذا السياق الذى نقصده بشكل مباشر ، فبعيدا عن النفس البشرية وتعقيداتها فهناك سلوك الدول والأمم والشعوب تجاه قضاياها ، فليس كل ما يلمع ذهبا.
>>>
اليوم نعيش فوق جبال ومرتفعات من المرارات والنكسات والتهديدات التى ستقودنا حتمال إلى تحديات وربما مواجهات ، ودون الدخول فى تفاصيل تأخذنا بعيدا عن جغرافية الأفكار الأساسية حيث المناطق النائية والمستنقعات الفكرية ، أقول وبشكل مباشر أننا كأمة نحتاج إلى الاستيقاظ من حالة النعاس القومى والوطنى التى استمرّت واستقرّت معنا بفعل تناول مخدر الطائفية والعنصرية وابتلاع حبوب الأنانية فيما يشبه حروب الأفيون التاريخية بين الصين وبريطانيا العظمى ، علينا ان نفيق من غفواتنا المقصودة ، فالمنطقة على اتساعها لم تتعرض لخطر داهم يهدد بقاء دولها كما هى الآن ، لكن الغريب ان العقل الجمعى ما زال ينظر مستمتعا بصفحة النهر الهادئ ومنظر الثلج المدهش ولا يمتد بقريحته إلى ما يخبئه قاع النهر او تخفيه الثلوج تحتها من مروج او شرور ، مازلنا نرى فى المجتمعات الغربية انها تؤمن بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ! مازلنا نرى ان اسرائيل يمكن ان تؤمن بالسلام وتتعايش مع مفرداته ! ما زلنا نعانى من قصور شديد فى النظر لا يمكننا من قراءة ما تحت صفحة النهر او لوحة الثلج.