يدفعنا العالم القصصي في مجموعة “أرملة وحيد القرن” للكاتب إسلام أبو شكير للتوقف مجددا أمام معنى وقيمة “الكتابة” ذاتها وقدرتها على تحرير الإنسان/ القارئ من كل قيد وإطلاق جناحيه في فضاء العالم والفرار من القبح والألم والهواجس بأبسط الطرق وأغربها ومساعدته على معرفة نفسه واكتشافها وإعادة تشكيلها من جديد، وعن نفسي جذبتني عوالم القصص وسلبني أسلوب الكاتب قدرتي على الذهاب بعيدًا..
لقد حررتني قصص المجموعة شيئا فشيئا، حدث ذلك بصورة مذهلة عدت للتفكير مجددا في معنى الكتابة ذاتها، أهميتها، وظيفتها، جدواها، وعن الخيال وطزاجته، واللغة وسطوتها وثرائها وعن السرد ومتعته وبصمة كل كاتب ، يكتب أبو شكير كأنه يلعب أو بالأحرى هو يلعب بالفعل..
يلعب مع الكتابة أو يلعب داخلها كأنه طفل داخل الملاهي ينتقل من لعبة إلى أخرى، يفعل ما يريد بالعالم دون أن يعبأ بشيء، يترك لخياله العنان دون خوف من عقاب أو توبيخ، خيال طازج، بكر وكتابة مدهشة ومؤرقة في آن، تكسر الملل والرتابة باقتدار وتجذبك من “ياقة” قميصك مجبرا تقلب الصفحات وتطارد السطور وتلاحق الأبطال وتتوقع الأحداث فتدهشك النهايات.. أقنعنني في كثير من القصص بقبول أشياء عجيبة جعل لها منطقا فنيا عبر فانتازيا محكمة، لم يذهب بعيدا إلى الفضاء أو إلى الخيال العلمي ولكن فجر قنابل الخيال في الواقع القريب والمباشر واستطاع توريط القارئ في ” جملة ونص” وبسلاسة فائقة حتى لم يدع له فرصة لمناقشة منطقية ما يحدث أو طريقته الفنية وصاغ داخل مجموعته البديعة عالما فانتازيا بامتياز.
«الموتى يعودون»
فالموتى يعودون، والجثث تجف وتعبأ في علب المطبخ وخزانة الملابس، والأعضاء تسقط من الأبطال في الشارع فيبلغون الشرطة ويحتفظون بها في الثلاجة هكذا يقول في قصة “حكايتي مع الجثث”: ” أجد جثثا أحيانا في بيتي، أعثر عليها في أماكن متفرقة، في المطبخ أو في خزانة الملابس، أو في علبة القهوة، جثث صغيرة جافة، لا أعرف كيف كانت تصل إلى هنا؟! ويقرر بيقين مجرب ” ليس سهلا أن يمضي الميت أوقاته كلها صامتا ووحيدا” ( قصة/ يزورني بعض الموتي).
عالم المجموعة يكتنز ألما وشجنا ودهشة خبيئة لكن عليك أن تحفر عميقا في روحك ا لتجد كل هذا فالكاتب محترف في إخفاء ذلك في طبقات من المفارقة والسخرية من الواقع بتبديل منطقه وتغيير قواعده وتسريب الشجن والاستنكار بطرق ساخرة وببساطة لافتة.
«حضور الجسد»
حضر الجسد بتجلياته وحضرت الأعضاء والدماء والجثث حضورا لافتا لا يشبه حضورها الذي نعرفه في الحياة أو في سرود أخرى حضرت كمعادل موضوعي لهواجس دفينة وقلق وجودي وحنين جارف، حضرت كمتحدثة بالنيابة، كمرايا شفيفة تعكس تساؤلات ملحة وإنكار عظيم لواقع لكن الأجمل أن يحدث هذا ببساطة تدفعك للابتسام كثيرا والتوقف مرارا لمحاورة المشهد المكتوب، ومحاولة فهمه وتأمل المفارقة المصنوعة برهافة ومحاولة فض مغاليقها.. ففي قصة (هلام الذكريات) يتحدث ببساطة عن عائلته التي تفضل اللحم البشري في الطعام فيقول: “خبرة والدي بلحم البشر- وليس هذا ادعاء- واسعة جدا”، وفي (جثة للتسلية) يؤكد: ” شيئا فشيئا اعتدنا على القوانين التي وضعها الوالد للتعامل مع جثة جدنا”.. وفي قصة (ابن حرام) يشاهد البطل قلبه بلا أثر لمفاجأة أو اندهاش فيقول: ” رأيت منذ يومين قلبي في سوق الأعضاء المستعملة” .. وعندما أجرى عملية زراعة قلب يحكي أنه “بقيت في صدري مساحة فارغة.. اضطروا لربطه بخيوط لأحد الأضلاع كي يكف عن التأرجح” وذلك في قصة (رمانة في الرأس).
وهكذا نرى الأب يحتفظ بجثة الجد فيتسلى الأبناء بها ومعها، وأسرة أخرى تأكل لحم البشر وتجيد طبخه، يحدث كل هذا بقدرة كبيرة من الكاتب على إقناعك به وبمنطق فنى بسيط ومشوق وباتكاء على التكثيف والاقتصاد اللغوي في نقل الحالة بما تحمله من مشاعر عبر أقل عدد من الكلمات وعبر أقصر الطرق التي تفجر في عقلك السؤال! وتتركك إلى قصة أخرى.
انظر مثلا كيف يتعامل مع الفقد والحرب والغياب ويا لها من معان ثقيلة! وذلك في قصة “العائد من الحرب” فالبطل يعود أخوه مرة أخرى مصابا بإعاقة مزمنة وهى إعاقة بسيطة لا تمنع استمرار الحياة وعلى حد تعبير أبو شكير عن مشكلة أخيه ” مشكلة أخي أنه لم يعد مرئيا”.. هكذا ببسساطة!
وفي قصة (الخريف) يتبادل البطل الحديث مع زوجته في البيت حول ما يجب أن يفعلاه بذراعه التي سقطت فيقول: ” تناولت زوجتي ذراعي منى سألتني عما إذا كان يجب أن ننظفها أولا قبل أن نضعها في الثلاجة”.
وتستمر الفانتازيا مهيمنة على جميع القصص ويقف الخيال في صفحاتها مدافعا عن الواقع برسم بدائل مقترحة للحياة.. يقول الكاتب في قصة (امرأة شائكة).. ” كنت نائما ذات يوم، فاستيقظت على صوت بكاء، يشبه بكاء طفل رضيع، دخلت الصالة فوجدت ثمرة البطيخ مفتوحة، وفي داخلها طفلة” وهكذا تتبادل مفردات الوجود أدوارها برضا تام.
أما في قصة (أرملة وحيد القرن) التي اختارها عنوانا للمجموعة تستيقظ زوجة البطل الذي مات منذ سنوات.. ” لتجده مستلقيا إلى جانبها، الرجل نفسه الذي مات وكان يفترض ألا يعود”، وقد عاد الزوج مجهدا جدا وواصل الحياة مجددا بطريقة أخرى حتى مات من جديد!
«فانتازيا»
ولم يغب عن تلك الفانتازيا بصمة الشعر التي بدت لافتة في قصة (عينان من زجاج) وفيها يقول: ” عندما أدخل البيت وأرى بعيني الزجاجتين، باقة ورد على الطاولة، أعرف مباشرة أنها ليست باقة ورد، ولا طاولة.. إنها أنت على السرير مستغرقة في حلم ما” فالسطور هنا أقرب لفقرة شعرية في قصيدة نثر حديثة تعتمد الصورة والتكثيف والمفارقة وكلها تقنيات عابرة للنوع الأدبي تحضر في الشعر والسرد” قصة العين الزجاجية”.
ختامًا فقد دق أبو شكير أبوابا كثيرة ومضى بعد أن خربش الروح وأيقظ القلق وزرع التساؤلات عن الزمان والمكان والموت والحياة والغياب والحب والوطن دون صراخ ودون صخب ودون اللجوء لقاموس من التعبيرات السهلة والمجانية الزاعقة التي تبتز الدموع وتستجدى الانفعال.