يزخر التاريخ منذ القدم بعشرات الجرائم والمذابح التى مازالت الكتب تذكرها، رغم أن بعضها مر عليه آلاف السنين، واكثرها بشاعة، تلك التى شهدتها منطقتنا العربية، وخاصة بغداد ودمشق والقاهرة منذ قرون عدة، وقد كانت كلها فى حروب قصيرة وتنتهى بسرعة أو فى شكل غارات أو حملات تنتهى بانتهاء أو تحقيق الغرض منها أيا كان، وبالطبع كلها أهدافها دنيئة وعدوان على الإنسانية دون وجه حق.
وبالطبع لا يوجد جرائم إنسانية وأخرى غير إنسانية أو جرائم رحيمة، فالجريمة هى نفسها ببشاعتها، مهما كانت ضد أى إنسان، لكن هناك جرائم قد تكون محدودة أو انتقامية أو حتى للدفاع عن النفس، بينما جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة والمستمرة بلا هوادة منذ خمسة عشر شهرا، لتسجل أرقاما قياسية ومستوى غير مسبوق من الإبادة والتنكيل والتعذيب والوحشية والتشريد والبشاعة.
تحجج الصهاينة بشن العمليات العسكرية الواسعة لإعادة المخطوفين لدى حماس فى غضون شهر، لكن التعطش للدماء واستساغتها، أغرى جيش الاحتلال بسفك المزيد منها ولم يعد شبر فى غزة إلا وارتوى بالدماء الغزيرة من الشهداء وخاصة من الأطفال والنساء والمسنين والمرضى وذوى الهمم الذين لم يجدوا مفرا ولاسبيلاً إلى أى مكان آمن.
وحتى عندما عدم النتن ياهو كل الحيل فى إنهاء الحرب بعد المفاوضات المكثفة طوال تلك الفترة، واقترب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، قام بلعبة مزدوجة لإفشالها، الأولى ومن خلال تصريحاته بنفسه،أن إسرائيل هى التى كانت وراء إنهاء نظام الأسد فى سوريا، وبذلك استطاع ببراعة أن يحول كل الاهتمام العالمى السياسى والإعلامى والأممى والشعبى إلى ما يحدث فى سوريا، وخلت له الأجواء ليعيث فى غزة فسادا، وصرف كل الأنظار عما ترتكبه الآلة الحربية الصهيونية الغاشمة وتواصل حصد الأرواح.
أما اللعبة الثانية فكانت المزيد من التنطع والتصلب والتعنت، بإضافة شروط جديدة علاوة على التى تم الاتفاق والموافقة عليها، وقد اتهمه أهالى الأسرى بالمماطلة من أجل تحقيق أهدافه الشخصية.
وشهد شاهد من أهلها، رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق إيهود أولمرت، قال إن نتنياهو لا يتصرف بناءً على تحليل منطقى لمصالح إسرائيل، هو لا يريد إعادة الأسرى لأن ذلك قد يؤدى إلى تفكيك الائتلاف الحكومى وقد يمنع إمكانية الاستيطان فى غزة.
وإسرائيل لا تستخدم فقط الوسائل العسكرية والأسلحة الفتاكة فى حربها ضد المدنيين، بل بكل خسة تستخدم أى وسيلة تؤدى إلى «فناء»الفلسطينيين، ولم تتورع عن قتل المرضى والجرحى بالمستشفيات وطواقم الإسعاف والأطباء، وآخرها حرق وتدمير مستشفى كمال عدوان وإخراجه من الخدمة، بعد تفجيره بروبوتات مفخخة، واقتادت ما تبقى على قيد الحياة من الطواقم الطبية والجرحى والمرضى ومرافقيهم إلى جهة مجهولة بشكل همجي.
ثم تستخدم إسرائيل سلاح «التجويع» بمنع دخول المساعدات الغذائية، وها هى المجاعة تضرب القطاع، ولا يجد السكان لا المال ولا الطعام ولا الماء ولا الدواء، ثم تضيق خناقها عليهم، ولم ترحم حتى المقيمين فى العراء، وترفض دخول الخيام والمواد الإغاثية وأصبح أكثر من 80 ٪ من خيام النازحين مهترئة لا تحمى من مطر ولا برد ولا صقيع شتوى قاتل.
وتعمل الدولة العبرية على إخفاء جرائمها بعدم وصول أى وسيلة إعلامية لها وشرعت فى قتل الصحفيين واغتيالهم هم وعائلاتهم لتكمم الأفواه حتى لا يوجد من ينقل فظائع الاحتلال للعالم، وبعدما كانت تنفذ عمليات جانبية على الإعلاميين بشكل خبيث يبدو كأنه عرضي، أصبحت تستهدفهم بشكل مباشر وتوجه إليهم صواريخها وقنابلها.
فى النهاية لا تجد إسرائيل إلا مواجهة بكلمات جوفاء فارغة كالطبول لا تقدم ولا تؤخر مثل الرفض والاستنكار والتعبير عن القلق، وغير ذلك من المصطلحات الدبلوماسية الحذرة التى اعتدناها من المواقف السياسية الدولية والتى «تتحسس» الكلمات والتعبيرات، كى لا تجرح «مشاعر» الدولة العبرية الغاصبة المحتلة.
غزة تعيش مأساة لا شبيه لها فى التاريخ، وليس لها من دون الله كاشفة.