أخيرا عادت المياه إلى مجاريها بين مصر وتركيا، لكن السؤال المهم: هل تعود تلك المياه صالحة للشرب مجددا؟ فى تقديرى أن العودة هذه المرة مبنية على أسس من التفاهم المشترك غير المتعجل ولذلك ستنجح وستكون المياه صالحة للشرب كذلك، فبعد قطيعة استمرت أكثر من عقد من الزمان شهدت تلك العلاقات توترا شديدا وغير مسبوق على جميع المستويات، لكن المياه تغيرت وتبدلت فى نهر «الواقع السياسي» ولابد أن نقر ونعترف أن العلاقات بين الدول تختلف كليا وجذريا عن العلاقات بين الأشخاص، فالدول تحكمها المصالح شديدة التداخل والتعقيد، أما الأشخاص فتحكمهم المشاعر سريعة الذوبان، من هنا أرى أن تركيا كدولة كبيرة لها وزنها فى الإقليم رأت أن مصالحها القومية تحتم عليها تدوير الزوايا مع مصر وهى الدولة الأكبر فى الإقليم، كما أن مصر رأت أيضا ان عودة علاقاتها السياسية مع الأتراك تصب فى صالح الدولة المصرية على مستويات عدة، إذن هناك فهم مشترك لواقع معقد يشهده العالم والإقليم مع وجود رغبة مشتركة لإعادة المياه إلى مجاريها شريطة أن تكون تلك المياه صالحة للشرب وغير ملوثة أو مسممة، وهنا جاء دور الإرادة السياسية لزعامات البلدين لتنقل هذا الفهم وهذه الرغبة من مربع النظرية إلى مربع التطبيق، بدأت المباحثات عن طريق التواصل المباشر بين مساعدى وزير خارجية البلدين مع التواصل المستمر لاجهزة الاستخبارات فى البلدين، ثم لقاءات ومصافحات عابرة للزعيمين اعقبها جلسة عابرة واتفاق على اللقاء بعد فعاليات انتخابية للرئيسين، وجاء اللقاء أمس فى القاهرة دافئا ودودا إلى أقصى درجة وتبادل الزعيمان كلمات الترحيب وأعرب كل منهما عن سعادته لهذا التطور الهائل فى العلاقات والتى تم تتويجها بتوقيع اتفاقية رفع مستوى العلاقات إلى المستوى الإستراتيجى.
«مجلس التعاون الإستراتيجي» وهذا ايذان بفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين، فعلى الصعيد الاقتصادى سيتم زيادة التعاون التجارى إلى 15 مليار دولار سنويا وكذلك زيادة الاستثمارات التركية فى مصر والتى تقدر الآن بثلاثة مليارات دولار، وعلى مستوى التعاون الأمنى والعسكرى يأتى ملف مكافحة تحديات الإرهاب على رأس جدول التعاون المصرى التركى المشترك، وفى مجال التصنيع العسكرى سيكون هناك تعاون فى مجالات عدة، أهمها الطائرات المسيرة والتى تتمتع فيها تركيا بقدر هائل من التقدم، وهنا أتوقع أن يكون هناك منطقة تركية فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس وتدعو إلى اقتناص الفرصة السياسية وترجمتها إلى اتفاقات مباشرة مع الجانب التركي، أيضا جاء التناغم بين الجانبين فى الملفات الإقليمية المأزومة فى ليبيا والتوافق على عقد الانتخابات وتوحيد الجيش الليبي، اما السودان والصومال والعلاقات مع أفريقيا فحظيت باهتمام واسع من الجانبين، وكانت غزة والقضية الفلسطينية موضع الاهتمام الأكبر حيث اتفق الرئيسان على جملة من النقاط، وقف فورى للحرب الدائرة وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونية 1967، كما دارت المباحثات على استغلال الهدوء الحالى فى شرق المتوسط والوصول إلى إطار للتعاون بين الدول المتشاطئة بما يحقق مصلحة جميع الأطراف، وفى نهاية اللقاء تم الاتفاق على قيام الرئيس السيسى بزيارة تركيا فى أبريل القادم لعقد أول مجلس للتعاون الإستراتيجى بين الجانبين، الخلاصة أن العلاقات عادت إلى مسارها السليم بعد فترة انقطاع شديدة الصعوبة، الآن نحن على مشارف مرحلة جديدة تحتاج من الجميع الارتقاء إلى مستوى المسئولية خاصة فى ظل جملة التحديات التى تواجه البلدين وسط محيط إقليمى مضطرب ومشتعل ومرشح لمزيد من الصراعات.