د.إسراء بدوى.. حرب أكتوبر كانت غناء قيثارة للشعب المصرى
سيد نجم: ما كتب عن معجزة أكتوبر كثير.. لكنه لم يقرأ كما يستحق
د.أمانى فؤاد: غياب مشاركة الأدباء.. اختلاف وجهة نظر
حرب أكتوبر، ليست فقط الحرب الأهم التى خاضتها مصر، ولكنها الحرب التى حققت الفخر، ورفعت الرأس واخذت الثأر وأعادت الأرض والكرامة للأمة العربية.. «أكتوبر» هى الحلم الذى انتظر الشعب تحقيقه سنوات، وبقى الرجال على الجبهة يبذلون الروح والدم لأجله..
«ملحمة» خلدها التاريخ، ومررها المصريون جيلاً بعد جيل، لتبقى حاضرة فى القلب
والوجدان، يذكرها كل من عاصرها، ويعرفها كل من حمل فى عروقه دماء مصرية وعربية ،إنها «حرب أكتوبر المجيدة».
ورغم ما لها من مكانة عسكرية وتاريخية، لكن الاعمال الأدبية التى تناولتها حتى الآن، ورغم مرور أكثر من خمسين عاما على النصر العظيم، ربما لم يقدمها الأدب كما تستحق، لم يحفظها بشكل يليق بها ففى الوقت الذى تقدم السينما الأمريكية طوال الوقت صورة المقاتل الأمريكى على أنه الخارق الذى لا يقهر، نجد الأدب المصرى والعرب بل والسينما مقصرون فى تجسيد نجمة أبطال العبور تبحث «الجمهورية» فى الذكرى الـ 51 على حرب أكتوبر المجيدة عن أسباب ذلك..
يرى الكاتب الكبير السيد نجم الذى شارك فى حرب أكتوبر ضمن الفريق الطبي، وقدم عدداً من الأعمال الإبداعية والنقدية عن « أدب الحرب «ان ما تم انجازه تعبيراً عن التجربة الحربية لتحرير سيناء منذ شهر يونية 67 وهو شهر النكسة وقد نشر فيه بعض القصائد وحتى بعد عبور أكتوبر 73 وما بعده ومرورا بأحداث حرب الاستنزاف.. ما زالت تنشر بعض الاعمال الشعرية والروائية منها روايتى «حصار الحمام الابيض» التى نشرت منذ شهور قليلة وبعد 50 سنة من العبور.. وما تم انجازه من نصر أكتوبر غير قليل على الرغم من كل الاهمال اعلاميا ونقديا له، وهناك البعض الصامد يسعى لنشر تجربته وتجربة البلاد خلال تلك الفترة النضالية الخطيرة والهامة.
ويمكن أن أعبر عن حالة الابداع المقاومى وادب الحرب عن تلك الفترة بأنه ابداع لم يقرأ..
ولم يتم التعريف به، واعتاد الجميع السؤال عن غيابه فقط؟
كثيرة هى الروايات التى عبرت عن تلك التجربة، منذ لحظة اعلان خبر النكسة حتى ما بعد البيان رقم 7 الذى أعلن عن نجاح القوات المسلحة العبور الى الضفة الشرقية للقناة.. ولذلك.. هناك روايات عبرت عن تجربة الاسر عام 67 مثل رواية «الأسرى يقيمون المتاريس» للروائى فؤاد حجازي، ورواية «دوى الصمت» للروائى «علاء مصطفي».. ثم رواية الصخرة الحجرية « لمحمد الراوى التى تشممنا من خلالها رائحة الجثث والموت.. ورواية « الصيف السابع والستين» للروائى إبراهيم عبدالمجيد.. ثم روايات عبرت عن العمليات الفدائية والمقاومة بعد النكسة مثل «الرفاعي» لجمال الغيطانى و» الحرب فى بر مصر» ليوسف القعيد.. ومع بدايات معارك أكتوبر والعبور كانت رواية «السمان يهاجر شرقاً» للروائى السيد نجم ورواية الاسكندرية 67 لمصطفى نصر.. وتوالت الاعمال.
تلك الروايات من باب الحصر والاحصاء، وانما مجرد اشارات فقط كى أوضح ان التجربة ثرية انسانيا وابداعيا وقد مرت بعدد من المراحل تم التعبير عنها باخلاص.. ولم تتم المتابعة والرصد الواجب.. يكفى الاشارة الى أن الولايات المتحدة الامريكية ما زالت تنتج افلام انتصارتها فى الحرب العالمية الثانية ومن انتصارها الكاذب فى فيتنام حتى اليوم؟
فالادب عن النصر كثير ولكن تجسيده إلى السينما يحتاج جهد آخر مختلف تعتقد د.أمانى فؤاد أستاذ النقد الأدبى بأكاديمية الفنون أن ما حال دون كتابة الأعمال الأدبية الروائية الكبيرة والملحمية، التى تعبِّر عن هذه الحرب، والسعادة بالانتصار التاريخى على العدو الإسرائيلى مجموعة من الملابسات التى تزامنت مع نهاية المعارك، فيها موقف بعض المثقفين من الرئيس السادات حين لم تُقنِع تلك التحولات السياسية – التى خاضها السادات بموضوعية وعقلانية ـــ المثقفين ولا المبدعين المصريين والعرب قبل الحرب وبعدها، فارتبط نصر أكتوبر بقائده الذى وضع الحلم الذى نسج طبقاته عبد الناصر ضمن معايير الواقع، فأعلنوا رفْضهم، ولذا لم يتعاملوا مع نصر أكتوبر بما يليق به، السادات التفاوض مع العدو، خوفا على أرواح الجنود فى الجيش الثالث، ولمنع العدو من دخول العمق المصري، هذا مع الشعور بالخطر بعد تدخل أمريكا فى الحرب وإمداد إسرائيل بالطائرات والأسلحة، فى جسر جوى مفتوح.
بعد انقضاء حرب 1973 أبدع (جمال الغيطاني) فى تجسيد الشخصية المصرية، فى نَصِّه « حكايات الغريب»، وسجَّل (يوسف القعيد) فى بديعته «الحرب فى بَرِّ مصر» ، التداخل بين الحرب على الجبهة، وضرورة الحرب على الفساد. وتوالت نصوص (مجيد طوبيا) و(سعيد سالم) لتجسيد بعض البطولات التى وقعت، وأيضًا أثناء فترة حرب الاستنزاف، كما كتب نجيب محفوظ « يوم قتل الزعيم» وكانت حول أصداء الحرب.
والآن بعد مرور أكثر من خمسين عاما على نصر أكتوبر يصبح لزاما أن تظل روح هذا النصر فى وعى الأجيال الجديدة، وأن تبقى روحه تعيش ضمن معطيات الهوية المصرية، وتظل أسباب ودلالات هذا الانتصار فى الوعى الجمعى المصرى يقظة وحيوية، حيث يتعين علينا أن نتلافى القصور الذى حدث فى كتابة تلك الملحمة.
يعتقد د.حاتم الجوهرى «أستاذ الأدب وفلسفة النقد» أن الأدب والتمثيل الفنى الأدب.. محور مهم يمكن الحديث عنه فى سياق حرب أكتوبر المجيدة أدبيا وسينمائيا، حرب أكتوبر لا تمثل نفسها فقط بل هى تمثل محاولة للتغلب على الحاجز النفسى لهزيمة عام 1967م، لذا هناك رابط ما يجمع حروب مصر الحديثة برمتها، من عام 1948م مرورا بالعدوان الثلاثى عام 1956م، وحرب اليمن (1962-1970م)، ثم حرب الاستنزاف (1967م- 1970م)، وصولا إلى حرب أكتوبر عام 1973م.
السردية المصرية متصلة ولم تنقطع، وقبلها محاولات التحرر من الإنجليز والمقاومة الشعبية ودور الجيش المصرى الوطنى فى فترة أسرة محمد علي، لكن السردية المصرية المستمرة من عام 1948م وحتى عام 1973م، مصر طوال عمرها مثلت القلب الجيوثقافى التاريخى للمنطقة، إلى جوار العراق الحارس على بوابة المنطقة الشرقية باتجاه آسيا، والسودان الحارس على بوابة المنطقة الجنوبية.
قدم الأدب المصرى منجزا مهما خاصة الذى قدمه الأدباء المحاربون بأنفسهم، وكذلك بعض الروايات التى حولت إلى أفلام سينمائية، لكننا نفتقد إلى رواية الذات المصرية الجماعية التى تقدم تصورا ممتدا يعبر عن السردية المستمرة منذ عام 1948 وحتى عام 1973م، هذه السردية الجماعية الكبرى عن دور مصر فى التاريخ المعاصر لمرحلة ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الأوروبي.
يرى الجوهرى أن المشكلة تكمن فى النظرية الأدبية للرواية المصرية، شهرة نجيب محفوظ وتحوله إلى تيار سائد ارتبط بالواقعية المفرطة، ثم ظهور أدب ما بعد الحداثة وسرد اليومى والمعاش وهوامش المدن، هو استمرار لمدرسة نجيب محفوظ وهزيمة الذات عنده، إذا تبنى الأدب الأكاديمى أو مؤسسات وزارة الثقافة نظرية أدبية تتكئ على الذات المصرية، ودورها العام فى مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاحتلال، يمكن أن يخرج لنا عملا أسطوريا وبطوليا، لكن النظرية الأدبية الحاملة والحاضنة لهذا التوجه يجب أن تخرج أولا، حتى يخرج من يتحلق حولها من الأدباء، وهذا هو السبب الرئيس لعدم ظهور رواية تمنح أكتوبر وما قبلها حقه، لم تتطور لدينا نظرية لأدب الحرب، ونسير فى ركاب مدارس ما بعد الحداثة والتبعية للأفكار التى تم ترويجها منذ تسعينيات القرن الماضي.
ترى د.إسراء بدوى استاذة النقد الأدبى بكلية الآداب جامعة عين شمس أن حرب أكتوبر لم تكن
فقط مجرد حرب عسكرية بين مصر وإسرائيل بل كانت غناء قيثارة لشعب أرهقته الهزيمة حد الموت أو الانتصار.
صوت فى ساحات الحرب يهز كيان الواقع ويسربل السكون ويكسر قواعد الصمت.
وبعد مرور سنوات عدة مازالت نفس اللحظات تتدوى فى نفوسنا حاضرة فى الحكى كما هى حاضرة فى الذاكرة.
ومن هنا يتشابه السرد مع الحرب آنية محورية فى الصيرورة التاريخية الإنسانية.
وحرب أكتوبر كان لها وقع على الأدب بشكل عام بكل أساليبه الفنية وقد حظى السرد الروائى المصرى والعربى بحضور خاص.
وبالرغم من تأصيل مفهوم الحرب فى عدد من الروايات المصرية المشهورة والتى تحولت إلى أفلام سينمائية «الرصاصة لاتزال فى جيبي»لإحسان عبد القدوس» الطريق إلى إيلات» وغيرهم.
كان لحضور حرب أكتوبر فى السرد الروائى انعكاسات عدة ما نحو ما جاء فى رواية «الرفاعي» و»حكايات الغريب» لجمال الغيطانى «الحرب فى بر مصر» ليوسف القعيد» رجال وشظايا» لسمير الفيل» دوى الصمت» لعلاء مصطفى « موسم العنف الجميل» لفؤاد قنديل.
إلا أنه مازال هناك سؤال يدور فى أذهاننا.. لماذا حرب أكتوبر أخذت مساحة زمنية محددة من التوثيق فى السرد الروائى ؟
ولكى نبحث فى ماهية هذا السؤال علينا أن ندرك إستراتيجيات الوعى لأدب الحرب .
وهذا يحيلنا بالضرورة إلى إشكالية محورية وهى كيف يتعامل الروائى مع المتخيل السردى عن الحرب وطريقة استعادة التاريخ عبر اللغة وتمثيل أبعاد خطاب الحرب على مستوى السرد ودلالاته.
حرب أكتوبر كانت لها أحداث سياسية وتاريخية قبل وبعد الحرب وهذا جعل روائين الأدب المصرى يضعون لغة هذه الأحداث نصب أعينهم ووثقوها أما من الجهة الإستراتيجية والعسكرية أو من خلال السياق السيكولوجى للحرب وتأثيرها على الإفراد والمجتمع.
وبالنسبة للسياق العسكرى فكان محدد المعلومات فعند استحضار تلك المعلومات فى السرد ستصبح اللغة مجرد جمل تقريرية لا تأتى بجديد للقاريء.
أما بالنسبة للسياق السيكولوجى للغة فى السرد بمستوياتها فإن الحرب تضع أوزارها فى لغة تسهم فى بناء واقع مواز سواء كانت هذه اللغة لغة رمزية أو لغة واقعية.
فالخطاب فى أدب الحرب يعبر عن سياقات لتجربة إنسانية ليس مجرد مجموعة من الأنساق والتراكيب.
وبذلك أصبحت حرب أكتوبر بمثابة حد فاصل فى تلك الفترة الرزائية بين زمانين زمن الفقد وزمن الاستعادة.
وأصبحت الروايات التى توثق الحرب أبنية تساير ذلك المنعطف السياسى والاجتماعى فى مسار الدولة المصرية بل والتاريخ بكامله.
وهذا ينقلنا إلى أن الظروف الإجتماعية ولدت طاقات إبداعية سردية تعددت فيها الرؤى والموضوعات دون الإشارة المباشرة إلى الحرب.
فتشكلت الحرب داخل وعى الكتاب من منظورات وخيارات جمالية لم تقف فقط على استعادة المعلومات العسكرية والنصر وإنما من خيال الآثار العميقة والدفينة على الأفراد والمجتمعات.
كما ان الأحداث الاجتماعية التى تلت حرب أكتوبر كانت بمثابة وعى ظاهر للوعى الباطن للحرب فظلت لغة الحرب وأحداثها مختزنة فى الوعى الباطنو أصبحت مهيمنة على الوعى الثقافى بكل خياراته الممكنة.
فمنذ حرب النكسة 1967 أخرجت روايات مثل «خطوات على الأرض المحبوسة» لمحمد حسين يونس و»الأسرى يقيمون المتاريس» لفؤاد حجازى وثيقة سردية لخطاب النكسة تحددت من خلال السمة اللغوية التى بنى عليها واقع الرواية وشخوصها وأحداثها.
ثم بعد حرب أكتوبر والانتصار أصبحت الأذهان المعرفية فى حالة من الإشباع الفعلى للنصر النفسى فأصبحت الصياغة السردية مندفعة بكل مقوماتها للكتابة ثم هدأت لاستيعات التجربة لأن الوظائف التى يقتضيها السرد لا يمكن الوفاء لإدركاها بهذا عن طريق هذا الإشباع.
نجد أن الروايات عن حرب أكتوبر قد مثلت على مدار العصور بنى معرفية متفاعلة ومتصلة، توظف التاريخ بوصفه منظومة من الأحداث والتمثلات الواقعية السابقة، المتجهة نحو الماضى لتعبر عن انتصارات وانكسارات الأبطال فى الواقع التاريخى والآخر المتخيل، فنحن لا نفهم أنفسنا إلا بخفايا من خلال العلامات البشرية المبثوثة فى الآثار الثقافية.