فارق كبير بين أن تسمع وأن ترى بعينيك، وما رأيته في أرض توشكى يكفى أن يزيدنى اطمئنانا على أننا نسير في الطريق الصحيح، وأن هناك قيادة تدير الدولة بحرص وإدراك لقيمة كل ثروة وأهمية كل ذرة رمل ورغبة فى استثمار كل شبر من أرض مصر على الوجه الأفضل، كل جنيه يوضع في مكانه بدقة وعناية، لا إسراف ولا تبذير ولا تقتير، بل علم وفهم.
في توشكى تنطق الأرض بما تحمله من خيرات وما بذل فيها من جهد حتى تتحول إلى منطقة إنتاج لصالح الشعب من يعرف توشكى ويتابع تاريخها لا يمكن أن يتخيل المشهد الذي تبدو عليه الآن، فقد كان محكومًا على هذه الأرض أن تظل صحراء قاحلة وألا تقربها التنمية وألا تنبت إلا نارًا بدرجة الحرارة التي تسود فيها، هكذا هي النتيجة التي خلصت لها أجهزة الدولة وأغلب الخبراء بعدما حدث قبل أكثر من 25 عامًا تقريبًا حينما أعلنت الحكومة وقتها أن توشكى مشروع لا جدوى منه والأفضل أن يغلق بلا رجعة، وأن يترك بورًا، ويكفى ما كلفه للدولة من خسائر، لكن لأن الإدارة الحالية لا تعرف المستحيل ولا تعترف بالفشل ومنذ اليوم الأول لتولى المسئولية هدفها استثمار كل ثروات وامكانات مصر لصالح أبنائها والأجيال القادمة، فقد أعاد من جديد المشروع إلى الحياة، وحولت توشكى إلى أرض تنمية ومنطقة تعمير زراعية تترجم معنى الإرادة وتجسد فكرة العمل المخلص.
6 سنـوات
في ست سنوات تحولت توشكى الصحراء الجافة المرعبة التى لا تصلح لشيء إلى أرض تنبت بالخضر والفاكهة والمحاصيل الاستراتيجية، تمور بأنواعها، مانجو بأشكاله، عنب بألوانه، قمح وذرة، بمساحات كبيرة مساحة، 400 فدان هي كل ما تمت زراعته طوال العشرين عامًا منذ نهاية التسعينيات فى القرن الماضى وحتى عام 2017، عندما تسلمتها الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضي الصحراوية، مساحة لم تكن تشجع أحدًا على التفكير في أي خطوة بالمنطقة، لكن بعون الله والإصرار والدراسة المبنية على علم وتجربة وخلال 6 سنوات فقط أصبحت مساحة الـ400 فدان الآن أكثر من 420 ألف فدان كلها زراعة وعمران، بأياد مصرية حفرت في الصخر ومهدت الأرض وأجرت تجارب عديدة نجحت في أن تجعل صحراء توشكي أرضًا تخرج من باطنها الخير.
أصعـب الظـروف
الأحد الماضى كانت رحلة ممتعة نظمتها إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة تنفيذًا لتكليف رئاسى بأن يرى رجال الإعلام والصحافة والفكر توشكى على الواقع، ودون مبالغة كان المشهد هناك وكأنه لوحة رسمت بأيدى فنان بارع لتختصر التاريخ وتسجل عبقرية جديدة للمصريين، وتقدم نموذجًا حيًا لفكرة الانجاز الذي يمكن أن يتحقق فى أصعب الظروف وأقل زمن وبأقل تكلفة، لوحة تتجاور فيها وجوه ترسم صورة التحدى لرجال يعملون تحت درجة حرارة تتجاوز الخمسين لكنهم يستظلون بنجاحهم، وابداع يوضح العظمة التي تجلت في هذه الأرض الطيبة وثمار تؤكد أن العمل ليس له جزاء إلا النجاح، فما تحقق في توشكى بكل المعاني عنوانه نجاح الدولة المصرية، ليس فقط في استصلاح واستزراع هذه المساحة الضخمة في زمن قياسي وإنما أيضا في أن تكون هذه الأرض التي فقدت الدولة فيها الأمل قبل عقدين هي الآن التي تسهم في تحقيق خطوات نحو الاكتفاء الذاتي من بعض المنتجات الزراعية، حصاد الأرض كله خير، شهدناه وأكلنا منه، عنبًا وتمرًا ومانجو، حضرنا جزءًا من حصاد القمح الذي كان يضوى بريقه على أرض توشكى وكأنه ينطق بما بذل من عرق وجهد كى تخضر هذه الأرض، ويقول إن من وصف توشكى بالأرض القاحلة ظلمها لأنها أرض خصبة وعامرة بالخير، في أرض توشكي تعرف الفارق بين من يتحدث بلا علم، فيهاجم كل قرار ويرفض كل خطوة بناء ويشوه كل انجاز، وبين من يريد أن يفهم ويرى بعينيه، وما رأيناه بأم أعيننا في يوم شديد الحرارة أكبر رسالة لكل من يريد أن يعرف كيف تبنى البلاد، وكيف تمتلك قوتك وتوفر غذاءك، كيف تواجه الصعب وتقهر المستحيل كي تحقق النجاح، وكما قال اللواء توفيق سامى توفيق رئيس مجلس إدارة الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضي الصحراوية والمسئول عن المشروع، فكل خطوة في توشكي كانت منذ البداية محسوبة، مشروع يحقق أهداف التنمية وفي الوقت نفسه يوفر تكلفته ويحقق ربحًا، لأنه يقوم على العلم، زراعات استراتيجية تحتاجها الدولة مثل القمح والذرة وبجانبها زراعات استثمارية تحقق العائد الذي يوفر التكلفة مثل التمور والفاكهة والبطاطس التي تمت إقامة مصنع لها لتعظيم العائد من المشروع، يقول اللواء توفيق: ” إن الهدف الذي تسعى إليه القيادة السياسية هو ألا نترك قطعة في أرض مصر دون أن نستثمرها، وعندما بدأنا في توشكى كان البعض يعتبرها مغامرة محفوفة بالخطر، وكنا نعتبرها تحديًا لا يقبل الفشل، بدأنا بـ 20 ألف فدان فكانت بداية الخير والبشرى التي أكدت أن الأرض جاهزة ومستعدة وأن ما سينفق عليها سيؤتي ثماره، لم يدخر الرئيس السيسى جهدًا ولم يتأخر عن تلبية كل ما يحتاج إليه المشروع الذي نستهدف أن يصل إلى 600 ألف فدان لم تكن في حسبان أحد”.
أكبر مزرعة نخيل
في توشكى زرعت مثل زملائي في الرحلة فسيلة نخلة إسهامًا فى مشروع هو الأكبر عالميًا واستحق أن يدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية وهو أكبر مزرعة نخيل في العالم، بنحو 2.5 مليون نخلة، المشروع الذي أصبح واقعًا يدعو للتفاخر ليس مجرد رقم يسجل دوليًا للتباهي وإنما له قيمة اقتصادية فإنتاجه من خلال الأنواع الجديدة التي تمت زراعتها يصدر للعديد من دول العالم، بالطبع في توشكى يجب ألا تكون الرؤية قاصرة على هذا المشروع العملاق وحده، فهو جزء من مخطط أكبر للاستصلاح والاستزراع مخطط استراتيجي للدولة من أجل زيادة الرقعة الزراعية بمعدل 4.5 مليون فدان وزيادة الإنتاج الزراعى والوصول إلى معدلات جيدة في الاكتفاء الذاتي من غذاء المصريين، هذا المشروع الوطني العملاق يمتد من مستقبل مصر وسيناء يمتد إلى مشروع الصوب وصولًا إلى توشكى وشرق العوينات، مشروعات تنافس بعضها في المساحة وحجم الإنتاج المتوقع والمستهدف منها، وكلها تصب في آتجاه الهدف الأكبر، تعمير الصحراء واستثمارها بما يضمن زيادة الإنتاجية الزراعية ويحقق قدرًا أكبر من الاكتفاء الذاتي في الغذاء، وفى الوقت نفسه زيادة الصادرات الزراعية، هذه فلسفة واضحة تعمل عليها القيادة السياسية منذ أول يوم، عنوانها وشعارها أن من يمتلك قوته يمتلك قراره واستقلاليته، ومصر دولة تستحق أن تمتلك قوتها بقوتها وقدراتها وثرواتها، بالتأكيد لا يمكن الحديث عن اكتفاء ذاتي كامل، ولكن على الأقل تخفيض نسبة الاستيراد وتوفير أكبر قدر ممكن من احتياجات الاستهلاك المحلى، والأهم توفير فرص عمل من خلال مشروعات زراعية عملاقة، ترتبط بصناعات زراعية كما في توشكي، وشرق العوينات ومستقبل مصر.
ثمـار الجهـد والعـرق
خلاصة ما شهدناه في توشكى أن مصر تحصد ثمار الجهد والعرق الذي بذل على مدى عشر سنوات في مشروعات، بعضها لم يكن يتخيل أحد أنها يمكن أن تتحقق أو تنتج، بل لم يتورع البعض أن يتهم الإدارة بسببها بأنها تهدر أموال الدولة على مشروعات فاشلة، لكن أثبتت الدولة للجميع أن الفشل الحقيقي هو أن تستسلم للواقع دون أن تحاول وأنها كانت صاحبة رؤية في إحياء مشروع توشكى الذى أصبح جاهزًا الآن لكل أنواع الاستثمار الخاص سواء المصرى أو الأجبني، كما أكدت هذه الزيارة وأن العمل هو أفضل رد على المشككين، فقد تذكرت فى قلب توشكى كلمة الرئيس السيسى «كلما هاجمونا سنعمل أكثر» وهذا ما وجدته فعلًا على الأرض، فما كان لهذا المشروع أن يرى النور لولا أن هناك إرادة سياسية أستطاعت أن تتقبل كل هذا الحجم من عمليات التشويه الغير شريفة، وأصرت على استكمال طريقها دون أن تلتفت للوراء فنجحت أن تحقق الحلم، الذي يقودنا الآن الى طريق الاكتفاء الذاتي وان نمتلك قوتنا وغذاءنا.
وأخيرًا إن من يشكك عليه فقط أن يقتطع جزءاً من وقته ليرى هذه المشروعات العملاقة ويطلع بنفسه ويرى كيف أنه يهاجم عن جهل ويشوه مشروعات تستحق منه أن يساندها، ويدعمها لأنها لم تقم إلا من أجل أن ينعم المصريون بإنتاج يكفى احتياجاتهم ويؤمن غذاءهم ويحميهم من تداعيات ما يشهده العالم من أزمات غير مسبوقة.
محافظة مستقلة
زيارة واحدة لمشروع مثل توشكى التي أصبحت الآن تستحق أن تكون محافظة مستقلة بما فيها من عمران ومالها من مستقبل يمكن أن تغير مفهوم أى مصرى عن معنى الجهد والعرق والإصرار والنجاح.