في درجة حرارة 4 تحت الصفر كانت الزيارة الأولى للرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة النرويجية أوسلو لتعبر بالعلاقات بين البلدين إلى مرحلة جديدة عنوانها الشراكة الكاملة المبنية على تعاون اقتصادي رفيع المستوى والتشاور والتنسيق السياسي الدائم حول كافة القضايا، النرويجيون شعب يتسم بالهدوء ولا يتخذ قرارات إلا بعد دراسة وتأن، ولديهم قواعد صارمة في البروتوكولات، لكن كل هذا لم يتم الالتزام به مع الزيارة الأولى لرئيس مصري إلى أوسلو… فالدولة النرويجية تعاملت مع زيارة الرئيس السيسي بأكبر قدر من الحفاوة التي تعكس احترامًا وتقديرًا وحرصًا على نجاح الزيارة سواء من رئيس الوزراء يوناس جار ستور أو الملك هارالد الخامس وفتح كل أبواب التعاون المفيد للبلدين والشعبين.
بدأت الحفاوة الواضحة بحفل الشاي غير الرسمي الذي أقامه رئيس وزراء النرويج على شرف الرئيس في مقر إقامته يوم الإجازة الرسمية وهو أمر غير معتاد في النرويج.. فالإجازة عندهم مقدسة ولا مجال فيها لأى فعاليات مع أي ضيف أجنبي… لكن رئيس الوزراء كسر هذه القاعدة احترامًا واحتفاء بالرئيس في رسالة واضحة بالرغبة في مد جسور التعاون والانفتاح على مصر أكثر خلال الفترة القادمة، وهذا ما لمسناه من الجميع في العاصمة أوسلو، فهم يتحدثون عن مصر باعتبارها الدولة الأكثر تأثيرًا في الشرق الوسط والأكثر قدرة على فهم ما يحدث بالمنطقة، ويقدرون قيمتها ومكانتها كإحدى أهم دعائم الاستقرار الإقليمي والسلام ولا مجال للابتعاد عنها وإنما لابد من التقارب معها، والتشاور المستمر.. وهذا ما أوضحته الصحف النرويجية التي اعتبرت زيارة الرئيس السيسي واحدة من أهم الزيارات التي استقبلتها أوسلو خلال الفترة الماضية خاصة في هذه الظروف المتوترة دوليًا واقليميًا، ويبنون على الزيارة كثيرًا في توطيد العلاقات مع القاهرة، مركز الثقل والقرار بالشرق الأوسط الذي تراه النرويج منطقة مهمة استثماريًا واقتصاديًا.
بالتأكيد وكما قال أحد المسئولين النرويج لم تأت هذه الرؤية لمصر من فراغ وإنما نتيجة المكانة التي تحتلها بثقلها السياسي وتحركاتها المحسوبة والعقلانية التي تتسم بها في المواقف المختلفة، ولهذا ليس من مصلحة أحد الابتعاد عن القاهرة أو تجاوزها، وإنما لابد من الاستماع إليها جيدا والاستفادة من رؤيتها سواء في القضية الفلسطينية أو مكافحة الإرهاب أو مستقبل الشرق الأوسط وسط ما يموج به من تغيرات جذرية مربكة لا يستطيع أحد فهمها بالشكل الجيد إلا عن طريق دولة لديها رؤية وعمق القاهرة وحكمة قيادتها التي تحظى باحترام الجميع.
بالطبع تقف النرويج كواحدة من دول الناتو وفي الوقت نفسه دولة حريصة على السلام العالمي وبالتالي لا تتحدث عن مصر وقيادتها من فراغ، وانما نتيجة فهم حقيقي لدورها وتأثيرها، وأنها الدولة القادرة على تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، وهذا ما يؤكد عليه الكثيرون في أوسلو، ادراك واضح لمكانة مصر، ودورها المحوري وهو ما أكد عليه الملك النرويجي خلال استقباله الرئيس حيث أعرب عن تقدير بلاده للدور المحوري الذي تلعبه مصر في إفريقيا والشرق الأوسط.
ولهذا الدور المصرى الكبير كان الحرص من المسئولين النرويجيين على الاتصال المستمر بالدولة المصرية خلال الفترة الماضية وتحديدًا منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، سواء كانت اتصالات بين رئيس الوزراء والرئيس السيسي أو بين وزيري خارجية البلدين، وخلال اللقاء بين الرئيس السيسي ورئيس الوزراء النرويجي أمس تم التوافق على دورية التشاور وتنسيق المواقف في القضايا الاقليمية والدولية.
وعلى الجانب الاقتصادي غيرت الزيارة تماما من طبيعة التعاون في هذا القطاع، فالبلدان يحتاجان لبعضهما البعض ولديهما قدرات يمكن من خلالها زيادة حجم التعاون الاقتصادي والتجارى الذى لم يرد على 204 ملايين دولار العام الأخير، وهو رقم ضئيل لا يناسب حجم الدولتين، ولهذا فالزيارة وضعت أسسا مختلفة للعلاقات الاقتصادية في المستقبل، وهو ما تم التأكيد عليه خلال لقاء الرئيس مع رئيس وزراء النرويج والتوافق على أهمية العمل المشترك لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية ورفع مستوى التبادل التجاري، وهو توجه يعكس الاهتمام المشترك بدعم العلاقات في هذا الاتجاه قمصر دولة استطاعت خلال السنوات العشر الماضية أن تنجز البنية التحتية وتهيئ المناخ الجاذب للاستثمار وتمتلك الآن فرضا واعدة للمستثمرين خاصة في مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة والطاقة الخضراء، والتوسع في انتاجها.
والنرويج دولة لديها الرغبة راغبة في الاستثمار وتمتلك أكبر صندوق سيادي على مستوى العالم بقيمة تتجاوز 1.9 تريليون دولار، ولديها شركات كبرى في مجالات الطاقة والبترول.
ولهذا فالتعاون الاقتصادي يصب في صالح البلدين بشكل كامل، وقد جاءت الاتفاقيات التي أعلنت عن مرحلة مختلفة بين القاهرة وأوسلو عنوانها الشراكة وتقوم في جانبها الاقتصادي والاستثماري على هذه القطاعات المستقبلية المهمة .
المؤكد أن زيارة الرئيس السيسى النرويج كشفت بوضوح حجم الاهتمام الأوروبي بمصر ورغبتهم الكبيرة في التعاون معها، وأن هذا ناتج عن التغيير الحقيقي الذي حققته مصر طوال السنوات الماضية ونجاحها في أن تحجز لنفسها مكانة مختلفة كدولة قوية ومؤثرة إقليميا ودوليا ولديها رؤية وصاحبة قرار واقتصاديا كدولة واعدة ومنطقة جذب حقيقية لكافة الاستثمارات.