أحد حراس الهوية د. خالد أبو الليل أستاذ الأدب الشعبى بـ«آداب القاهرة»:
ثروة مصر شبابها.. والمرأة حافظة التراث الشعبى منذ «إيزيس»
فكرة الوعى والاستنارة ليست ضد المأثور الشعبى بل تحترمه و تستند عليه

يعيش العالم الآن عصر العولمة القاتلة للخصوصيات والسطو الصريح على تراث وهويات الشعوب فكيف تنجو الأمم العريقة بملامحها الأصيلة من ذلك الطوفان دون أن تفقد قدرتها على التواصل مع منتجات الحضارة الإنسانية الحديثة.. ودون أن تتهم بالتخلف وتقديس الماضي؟!.. نحاول معا فى هذا الحوار الثرى أن نصل إلى إجابات مطمئنة من أحد حراس الهوية المصرية وهو الأكاديمى المرموق أ. د خالد أبو الليل أستاذ الأدب الشعبى والفولكلور وكيل كلية الآداب جامعة القاهرة لسنوات طويلة والحاصل على عدد كبير من جوائز الدولة منها جائزة الدولة التشجيعية فضلا عن جوائز وتكريمات أخــري.. يحلم أبو الليل وينادى منذ سنوات بمشروع طموح هو «موسوعة وصف مصر المعاصرة» وداخل حوارنا المزيد عن رؤيته لها، كما يحدثنا عن الموروث الشعبى الفلسطينى ومحاولة « العدو» سرقته وكون هذا الموروث حائط الصد الأخير أمام السطو الغاشم على فلسطين وتاريخها، صدر لـ « أبو الليل» عدد كبير من الكتب والأبحاث فى الموروث الشعبى المصرى بل والعربى والأفريقى والسير الشعبية ومنها فقط على سبيل المثال: المرأة والحدوتة ، الأدب الشعبى الإفريقي، صورة اليهودى فى الأدب الشعبى العربي.
-> في عصر ذوبان الهويات كيف ترى تمسك المصريين بتراثهم المميز؟
>> نحن نعيش عصرا متنوعا متغيرا قائما على ذوبان الهويات وتداخلها وقد كنا من قبل نعيش عصرا كانت فيه الثقافات منغلقة على نفسها ما أدى إلى الاعتزاز بالهويات وبالتراث والموروث أما وأننا نعيش عصرا انفتحت فيه الحضارات على بعضها وتداخلتـ فطبيعي أن تشعر الأمم ذات الحضارات الكبرى والعريقة بالخطر مثل مصر وسوريا والعراق والهند والصين أما الأمم ذات الحضارات الوليدة فلا يشغلها هذا الهاجس بل وربما أن القائمين على تلك الدول يحاولون دائما ترسيخ ثقافة الانفتاح وتأكيد فكرة أن العالم « ابن النهاردة» وبالتالي لا قيمة للماضي ولا التاريخ ويتساوى الجميع. ورغم التوجه المغرق في العولمة وتداعياتها والسعي لمزيد من الانصهار والذوبان فإن الشعب المصري لديه طوال الوقت حنين دائم وشغف بالتراث ومن المفارقات أننا نجد أشد الأوقات صعوبة هي أشد الأوقات انجذابا وعودة إلى تراثه والتشبث به لينقذنا من براثن الواقع باعتبار التراث والتمسك به ركنا أساسيا في الحاضر و ليس لدى تخوف على هويتنا ولا تراثنا ولا موروثنا الشعبي حتى في أصعب الأوقات
فعندما جاء المغول وغيرهم وغيرهم وكانت دائماً أشد اللحظات قتامة كانت أشد اللحظات أيضا تمسكا بالتراث وأشد اللحظات دائمًا هي التي تنتج الأبطال الشعبيين والسير الشعبية وغيرها من ملامح الهوية الشعبية .. نعم هناك أشياء تتداخل مع معطيات الحضارة والعولمة لكن هناك ثوابت دائما تعرف الشعوب العريقة كيف تصونها.
وقد يظن البعض أن عصرنا قاتل للهويات الثقافية و وربما هذا حقيقي لكن حالة مصر مختلفة، فدائما لدينا اعتزاز بتراثنا وثوابتنا وهناك ثوابت لدينا لا تتغير مهما حدث ونرى الروح المصرية وملامح الهوية تظهر في أوقات كثيرة ومنها مثلا: شهر رمضان، الأفراح والمناسبات المختلفة وحتى في المناسبات الحزينة. وهذا كله يعبر عن خصوصيتنا الثقافية، ومعك أن هناك حالات نلتقى فيها ونتداخل مع الثقافات العالمية لا سيما تحت تأثير العولمة وهذا طبيعي لكن الثوابت المصرية والعادات والمعتقدات وغيرها ثابتة قد تختفي فترة أو ترجع للوراء لكن أوقات الشدة تستدعيها الذاكرة الشعبية، مثلا: العادات المرتبطة بشهر رمضان كانت قد بدأت تتراجع مثل فكرة الفانوس التقليدي ودور المسحراتي وبعض الطقوس والأطعمة المرتبطة في الذاكرة بشهر رمضان لكن عندما استشعر المصريون خطر ذوبان تلك الملامح، فوجئنا بعودة أقوي وحضور لدور المسحراتي كما عاد الفانوس المصري التقليدي، وكثيرا من عادات رمضان بعدأن اعتقد البعض أنها ذابت وتلاشت.. وذلك لأن الهوية الثقافية المصرية ليست عابرة ولكنها متجذرة من آلاف السنين وعبرت القرون والسنوات إلى المصري الحاضر.
لا للتقديس
> ومتى يتحول في نظرك الاهتمام بالتراث تقديسا للماضي؟
>> البعض للأسف ينظر للتراث على أنه حفريات قديمة وهنا أستدعي تعريف أحد الباحثين الروس وهو» «يوري سوكولوف» للفولكور بأنه «صوت الماضي وصدى الحاضر» وأضيف له هو صوت الماضي وصدى الحاضر وأفقًا من آفاق المستقبل هذا هو الفولكلور وهو جذوري التي أقف وأبنى عليها.. وكثيرا ما هوجم التراث الشعبي باعتباره دعوة للتخلف و آلة من آلات التخلف أو أننا نعبده وكذا.. وللأسف منهم دعاة تقدم واستنارة وهذا غير حقيقي فنحن لا نقول بتقديس هذا التراث ولكننا نهتم منه بما يقدم وظيفة راهنه نهتم بها وننميها.
ولعلنا نلاحظ أن بعض الدول والأمم التي ليس لها ماض ولا تراث تحاول سرقة التاريخ والهوية من الهويات المحيطة بها وتصنع لنفسها ماضيًا مزيفًا وتسرق تراث غيرها وتبنى هويات مزيفة وتؤكد جذورها بطرق غير مشروعة ..والفيلسوف الكندي قال «فلنبدأ من القديم لا على سبيل تكراره ولكن على أن نتم القول بما لم يتم القدماء القول فيه».
هل ثمة تناقض
> هل تعتقد أن ثمة صراعا أو تناقضا بين المأثور والوعي الشعبي والاستنارة والتحديث؟
>> للأسف البعض لاسيما من دعاة الاستنارة يربط بين الموروث الشعبي وبين التخلف وبين الموروث والأميين والحقيقة أن ما يحمله هؤلاء الأميون من خبرات وتراكم ووعي شعبي ومأثور تعادل وتعوضهم ما هو أكبر وأكثر من الشهادات الجامعية وبالعكس فإننا نحن أصحاب الشهادات الجامعية نذهب إلى هؤلاء الأميين لنتعلم منهم.. من حكايات وأمثلتهم الشعبية وحكمتهم ومواقفهم وسيرتهم
والمأثور الشعبي يلعب دورا مهما في حياة المهمشين وهو بمثابة الجامعة والمدرسة والمجال التربوي لأبناء هذه الثقافات فكيف نربط هذا المأثور وأبناءه بالتخلف.. وهو الذي أنتج مثلا طه حسين والعقاد وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والمازني ورفاعة الطهطاوي وعلى مبارك ومحمد عبده وغيرهم.. كل ما في الأمر أننا نأخذ من هذا المأثور ما يصلح أساسا للبناء عليه وترك ما لا يؤدي دورا في الحاضر.. أما تقديس التراث بلا هدف فليس صحيحا.. والاستنارة ليست ضد المأثور ولا عكس التراث بل تتكئ عليه، وهذا ما تؤكده رؤية مصر 2030 التي تتكئ على التراث والاهتمام به فضلا عن جانب كبير من التنمية المستدامة التي تتخذ من التراث حجر زاوية.
> كأكاديمي عملت وكيلا لآداب القاهرة العريقة كيف ترى أجيال هذا الزمن وقربهم ووعيهم بهوية وطنهم وملامحه المائزة وهل تم بالفعل تغييبهم عن ذواتهم الأصيلة؟
>> كانت لحظة تكليفي « وكيلا لكلية آداب القاهرة» لحظة عظيمة في حياتي لما لها من تاريخ عريق ودور في حياتي فأنا أحد أبنائها وهى بيتي الكبير، وعلاقتي بجميع من فيها من أصغر طالب لأكبر أستاذ طيبة وسعدت بأن سنحت لى فرصة لخدمة بيتي وأتمنى أن أكون قد استطعت خلال السنوات الماضية خدمة الجميع وأنا مؤمن دائما بالشباب والأجيال الجديدة وبعدما توليت « وكيلا» وتعاملت مع شريحة أكبر من الطلاب فوجئت بطموحهم وحماسهم وتأكدت أن ثروة مصر في شبابها، شباب رغم صغر سنهم لديهم انتماء لبلده ونضج ووعي مدهش على من في مثل سنهم.. هؤلاء فعلا أمل مصر ومستقبلها.
دفتر النسوان
> من وحي كتابك « المرأة والحدوتة» هل تعتقد أن المرأة المصرية ما زالت تحتفظ بمأثور المصريين الشعبي أم أن الواقع أنتج امرأة أخرى منفصلة عن الماضي؟
>> المرأة هى حافظة التراث الشعبي وهى خازنته لدرجة أن أحد التوصيفات التي كانت شائعة في علم المأثور الشعبي أنه « دفتر النسوان» فقد كانت المرأة تقوم بدور كبير في حفظ هذا التراث سواء بروايته أو تلقيه أو العمل به ، وعندما هاجم بعض الباحثين الغربيين الحكايات الشعبية وصفوها بأنها: «حكايات عجائز» وبالتالي كان ارتباط الفولكلور بالمرأة ظاهرة عالمية ولدينا في مصر المرأة لها دور كبير في حفظ المأثور الشعبي وهى «ذاكرة الأمة» في حفظ الموروث الشعبي.. فدور المرأة في ممارسة الطقوس والمظاهر الشعبية تبدأ منذ حملها للطفل وولادته بالغناء والهدهدة ثم الحواديت والألعاب وختانه وكل مراحل حياته إلى أن يكبر ويتعلم ويتزوج ويصير أبا وحتى عندما يتوفى تودعه بالعديد والمراثي ، كما كان لها دور هام في «ألف ليلة وليلة» وفي السير والألعاب الشعبية.. وينبغي دائما أن نعى دور المرأة منذ إيزيس وما قبلها في انتاج وحفظ التراث ونقله لنا جيلا بعد جيل حتى الآن.
الهوية الفلسطينية
> خصصت أحد أبحاثك عن صورة اليهودي في الأدب الشعبي العربي وصدر في كتاب ونرى جميعا ما يحدث في فلسطين الآن فكيف يمكن في نظرك أن تقاوم الهوية الفلسطينية ذلك الاجتثاث الذي يكاد يقضى على ملامح هويتها وتراثها؟ ا
>> لنا عامان نتألم من الوضع في فلسطين والدولة المصرية بقائدها وشعبها وجيشها الوطنى قلبا وقالبا مع فلسطين وشعبها ونأمل أن يحصلوا على جميع حقوقهم في أقرب وقت ولا شك أن التراث الشعبي الفلسطيني يعزز الهوية الفلسطينية وهو حائط صد قوي وأخير يقاوم به الفلسطينيون عدوهم الغاشم الذي يسطو على تراثهم وحاول تغييره وتزويره وفي كتابى «صورة اليهودي فى الأدب الشعبى» الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة منذ سنوات تحدثت عن هذه القضية وتحدثت عن تهويد التراث الشعبي الفلسطينى ومحاولة «أسرلته» أى إضفاء الطابع الإسرائيلي عليه، فاليهود الذين هاجروا إلى فلسطين جاءوا بتراثهم من البلدان التي نشأوا فيها فحاولوا «أدلجة» الأمر والاستيلاء على الهوية الشعبية الفلسطينية، بمعنى أنهم أضفوا على التراث الذي حملوه معهم قناعاتهم وأفكارهم وشعاراتهم التي تخدم سياستهم الاستعمارية وكان حائط الصد لمواجهة كل ذلك هو التراث الشعبي الفلسطيني ومنه الغناء والسير الشعبية فالسيرة الهلالية مثـــلا تطبعــت بطابـع فلسطينـــي فمثلا أبو زيد الهلالى صار في داخــل فلسطين «أبو زيد الفدائى» وتطبع بطبائعهم.. وسيظل المأثور الشعبي حائط الصد الأخير للهوية الفلسطينية
> كباحث ومتخصص هل يمكن أن توضح لنا الفرق بين مصطلحى «التراث» و«الموروث»؟
>> هناك فرق بين التراث والموروث.. نحن كمتخصصين نفرق بين المصطلحين فالتراث هو الشيء الثابت الذي تركه السلف للخلف وهذا التراث إذا ترك وظيفته ولم يعد يقوم بها في الحاضر أصبح جزءا من التاريخ بعدما صار ثابتا لا يتفاعل ولا يتسم بالمرونة مع الحاضر، ورغم ذلك يظل له دور في الدلالة على التاريخ بكل اشكاله السياسي والاجتماعي لكنه دخل حيز التراث فمثلا يقول المثل الشعبي «ابن الحرام يا قـواس يا مكاس» و«القواس» و«المكاس» مهنتان من العصر التركي اندثرتا ولم يعد المثل له دور أو وظيفة فى الحاضر فصار تراثا يفيدنا فقط في معرفة سياقات تاريخية عكس مثل شعبي آخر مثل «اعمل الخير وارميه البحر» مازال فاعلا ويقوم بدروه وهذا يسمى «موروث» فهو موروث يتفاعل مع الزمن ويقوم بأدوار مختلفة لأنه مرن ما زال حاضرا بتأثيراته.. ومثلا لدينا مجموعة السير الشعبية: الزير سالم، الأميرة ذات الهمة، عنترة، الظاهربيبرس وغيرها لم يعد لها وظيفة في المجتمع الشعبي وحتى لم يعد لها رواة فهذه صارت «تراثًا شعبيًا» وجزءًا من التاريخ، وليست «موروثًا» .. عكس السيرة «الهلالية» التي مازالت تقوم بدور وتتفاعل في مجتمعاتنا المعاصرة ولها رواة أحياء فهى « موروث شعبي « حي متفاعل ومازالت وزارة الثقافة تستضيف رواة السيرة الهلالية في كثير من فعالياتها.. على أن بعض عناصر» التراث» قد تعود لسبب أو لآخر لتأثيرها وتقوم بدور جديد في الحاضر ومن ثم تعود تعود موروثا.
دور الدولة
> كيف ترى التقدير الرسمي للباحث بشكل عام والباحث الشعبي بشكل خاص؟
>> الدولة المصرية اهتمت جدا لاسيما في السنوات الأخيرة بالتراث والموروث الشعبي وهناك أكثر من مادة في الدستور الحديث تلح على الاهتمام بالتراث الشعبي، والدولة لم تدخر جهدا في الاهتمام بالتراث ومنها إنشاء وتأسيس كيانات وهيئات معنية بالتراث الشعبي وربما تكون مصر من أوائل وأكبر الدول التي أسست هيئات تعني بالتراث وربما يتجاوز عددها 100 مؤسسة عامة وخاصة ولكن الحركة الفولكلورية المصرية لم تقدم المرجو منها ربما لأن الدولة لم تراقب عمل هذه المؤسسات فضلا عن عدم توحيد الجهود بينها، حتى أنها تعمل كجزر منعزلة، ولا أقول من وزارة لوزارة بل داخل الوزارة الواحدة والقطاعات نفسها فمثلا قصور الثقافة لا يوجد تواصل داخلها بين الإدارات فنجد تكرار وجهود مهدرة لا تنسيق بينها، فضلا عن ضعف الدعم المادي لاسيما للباحثين الشعبيين والميدانيين، وعن نفسي لدي مشروع أتمنى أن ننجزه معا تحدثت فيه وعنه كثيرا وهو « وصف مصر المعاصرة» بعد « وصف مصر» القديم الذي مر عليه 200 عاما وهو مصدر أساسي لكل الباحثين في كل مكان داخل وخارج مصر لنعرف أين كنا وإلى أين وصلنا وإلى أين نتجه؟ .. بحيث نرصد فيها كل ما حدث من تغييرات جوهرية منذ «وصف مصر» أيام الحملة الفرنسية وتلك الموسوعة ستخدم قرارات القيادة السياسية كثيرا عندما توفر لها خريطة للمجتمع المصري وحصر الحرف والبشر والحجر والأماكن الآن تماما كما حدث في « وصف مصر» القديمة.. وللأسف بعض المؤسسات وجودها كعدمه وغير مفعلة، فمثلا هناك متحف تأسس في مكان ما وخصص له موظفون وظل لسنوات لم يفتتح ولم يستفاد منه .. نحتاج تكامل وتواصل ومراقبة لعمل هذه المؤسسات أما من ناحية الدولة فقد قدمت ما عليها ولم تدخر جهدا.
ولعل ما تقوم به الدولة الآن ممثلة فى وزارة الثقافة من اهتمام بالموروث الشعبى وبرواته والصناعات الثقافية لهو خير دليل على توجه جديد لوزارة الثقافة فى إعادة الاعتبار لموروثنا الثقافى بمعناه الشامل.