ابن قبيلة المساعيد.. البطل الشيخ أحمد حسن عياده المسعودى
قام بعشرات الإغارات على معسكرات الصهاينة فى القنطرة وبئر العبد
أبناء سيناء قاموا بما عليهم لصالح هذا الوطن، وكانوا أول مَن سدد فاتورة الدم دفاعاً ليس فحسب عن سيناء إنما عن الوطن.. ترابه المقدس وأهله الطيبين، وكان مقتضى الحال يستوجب حكى بطولات المصريين أبناء سيناء؛ ليس سرداً لمرثية هؤلاء الرجال والنساء والأطفال، بل لرد الفضل لأصحاب الفضل على كامل الوطن، هم مَن تقدموا طواعية عقب النكسة لمساعدة قواتنا المسلحة فى استعادة الأرض والكرامة ولو كلّفهم هذا السبيل الروح والدم، ولم يعلموا أن أحداً سيذكرهم، ولم يقدموا على التضحية لمجد يسعون إليه، بل لمجد الوطن وأهله… وهم الذين منحتهم أرض سيناء المقدسة نوعاً من قداسة البطولة، وكرم التضحية، وعفوية الفداء.
… بعد أن انتهت المهمة الأولي؛ كلفتنى عناصر المخابرات المصرية بالمهمة التالية، وهي: بداية الثأر، وكانت مراحلها بالترتيب أولاً أن أجمع وبمنتهى الدقة والحيطة والحذر عدداً من رجال سيناء يمكنهم القيام بالمهام الاستطلاعية والقتالية إن لزم الأمر، لكن هنا وجب عليَّ أن أفسر أنه لم يكن الاختيار بين أقرانى بمَن منهم وطنى وآخر غير ذلك، لا، على الإطلاق، لم تكن حقيقة الأمر فى الاختيار هكذا، إنما كان من بيننا مَن هم يثورون ولا يتمالكون أنفسهم عند رؤية الصهاينة، ويندفعون فى الالتحام معهم دون تفكير أو روية، وهذا هو الصنف من الرجال الذى لا يجب أن يكون من بين عناصر المجموعات التى يستلزم عليَّ تشكيلها، نظراً للسرية الشديدة لطبيعة المهام، وأيضاً التحلى بالصبر كما الفهود التى تتربص فى هدوء تنقض على فريستها، وتلك الجملة تحديداً هى التى كنت أقولها لرجالي، فكانت رباطة الجأش أحد المهارات، وربما أهم الأسلحة لنجاح المهام المكلفين بها ضد الصهاينة، سواء خلف خطوط العدو أو فى العمق(!).
وخلال الاستنزاف قمنا بالعشرات من العمليات التى تنقسم إلى قسمين؛ الأولى وهى الأهم: هى جمع المعلومات عن تحركات العدو وأعداد أفراده وفرزهم إن أمكن وتصنيف درجاتهم ورتبهم، وكذلك تحديد أنواع الأسلحة الجديدة باستمرار بالوصف الدقيق للسلاح أو المعدة أو المجنزرة أو المركبة إذا تعذر معرفة اسمها ونوعها، وأيضاً لا يخلو الأمر من وصف دقيق لمعسكراتهم ودورياتهم وتوقيتاتها ونطاق خدماتها وحراستها، وأيضاً تزويد عناصر المخابرات بتفريدات الإمداد اللوجستى من أنواع الطعام الواردة إليهم، وكانت المجموعات تجيد الرسم التفصيلى للتجهيزات الهندسية ولخرائط حقول الألغام التى ينفذها العدو الصهيوني.
أما القسم الثانى وهو الأقرب لقلوبنا والذى نؤديه كما يقول الرجال معى حينها (بمزاج عالٍ) فهو قنص أفراد وقادة بعينهم وسبق تحديد أوصافهم وأسمائهم وتحركاتهم بدقة متناهية، وأيضاً تلغيم ممرات التحرك المنتظر لأرتال دبابات ومركبات العدو الصهيوني، التى كانت نتائجها عندما تتصاعد ألسنة اللهب إلى عنان سماء سيناء معلنة احتراق وتفحم الصهاينة كانت تنزل على صدورنا برداً وسلاماً تشفى الغليل من صور قتلهم لرجالنا عقب يونيه 67، فلا أزايد عندما أقول إن ألسنة اللهب وأنا أنظر إليها أراها ترسم وجوه باسمة لهؤلاء الشهداء من رجال الجيش المصري، وأحياناً كنت أقرأ ألسنة اللهب المتصاعدة تكتب كلمة (الثأر) فى سماء سيناء، فأنظر حولى لأشهد الجبال والوديان على ثأر أبناء الأرض من الصهاينة».
وعن بعض المهام القتالية يحكى البطل الشيخ المسعودي: «تلقينا الأوامر من الغرب بمهمة غاية فى السرية، وأيضاً تستلزم سرعة التنفيذ وبالحيطة والحذر الواجبين، وكانت المهمة فى عمومها تستهدف تلغيم جزء محدد من الطريق الأوسط، وكانت الأوامر التى تلقيتها فى القنطرة تستوجب الانتقال الفورى لمنطقة التنفيذ تحت ستر عمليات الإخفاء والتمويه، وكذلك تكليف بعض من العناصر بمحو الأثر للمجموعة القائمة بالتنفيذ، كما كانت التعليمات هى تنفيذ التلغيم بطول يزيد عن الكيلومتر بعدة مئات من الأمتار، بالطبع كنت أتلقى أوامر المهمة وأتفهم ما هو بدقة تفاصيلها، ونقلت خطة التنفيذ للرجال وكنا حينها (الأبطال حسين مسلم ومبارك أبو صالح وعادل أبو منونة وعبدالمعطى فلاح وعيد عوض وهلال سليمان)، ما زلت أتذكرهم وكأنهم أمام عينى نوزع المهام على أنفسنا قبيل التنفيذ، ويشد كل منا على عضد أخيه يثبته ويودعه فى آن واحد(!)؛ فكنا نعلم يقينا أن تلك من العمليات الفدائية شديدة الأهمية، نظراً لأنه سيتم تنفيذها فى وضح النهار وقبيل اقتراب العدو بوقت وجيز للغاية، وتم زراعة الطريق المحدد بالألغام المضادة للدبابات وبطريقة تجعل العدو المتغطرس يقع فى قلب حقل الألغام ثم ينفجر أوله وآخره معاً فى توقيت واحد، وتتالى الانفجارات للقطع التى بين طرفى حقل الألغام، وبعد أن انتهى كل منا من مهمته اختفينا وراء السواتر متخفين بكوديات الحشائش لا يتحرك منا أحد، وإن لسعه عقرب أو لدغته حية؛ فأى حركة غير محسوبة ستؤدى لفشل المهمة وأيضاً القبض علينا، وإن لم يكن هذا عندنا بالأهمية قدر أننا نشهد لحظات احتراق وشوى الصهاينة، فتلك هى جُلّ أمانينا، وما هى إلا دقائق وسمعنا أصوات الجنازير تهز الحصى والرمل معلنة قدوم الفريسة إلى فخ الفهود، وانتظرنا حتى دخلت آخر دبابة فى مجال التفجير، وهنا أطلقت السماء الزغاريد فرحة بنصر الله على أعداء الوطن، وثأرنا بعض الشيء لشهداء يونيه، ولا أنسى حينها وجميعاً الرجال تتقطر من أعينهم الدمع فرحاً، ولم يخجل رجل منا أن يبكى بعين تتلقى العزاء على شهدائنا والأخرى فرحة مكحلة بدخان الثأر وهو يمخر عباب سماء سيناء، وتشنف الأسماع بدوى الانفجارات المتلاحقة ما بين ألغامنا المنزرعة وذخائرهم المحملة بالدبابات فى تناغم ترد صداه علينا جبال سيناء وكأنها تئوِّب فى صلاة شكر لله.
بالطبع نفذنا انسحاباً من موقع التفجير نتبع فيه إجراءات السلامة وأساليب التخفى والتمويه؛ لأننا كنا على علم بأن السماء ستمتلئ بطائرات العدو للتمشيط والبحث عن المنفذين، وفى أثناء عودتنا تفاجأنا باكتشاف دورية صهيونية هى الأخرى تقوم بدور البحث والتمشيط، فما كان لنا إلا أن انتشرنا فرادى على جانبى طريق الأوسط متخفين بثنايا الأرض التى اعتدنا احتضانها، وظل كل منا راقداً فى موقعه طوال النهار حتى حلول الليل، وبدأنا حينها فى التستر فى تحركاتنا ووثباتنا بستر الليل فى دروب سيناء التى نحفظها وتحفظنا».
ويحكى البطل عن مهمة أخرى أطلق عليها (مهمة الرجال السبعة) حين تم تكليفه هو وزملاؤه بضرب موقع للصهاينة بصواريخ الكاتيوشا، وهنا كانت خطتنا أن تنهال الصواريخ من كل جانب للموقع فى آن واحد حتى نُفقدهم التوازن ونوقع بهم أكبر الخسائر، وكانت لتلك العملية أثرها الكبير فى نفوس السيناوية وتشجيع الآخرين على الثأر من الصهاينة، كما كان لها أثر سلبى على الصهاينة؛ إذ استشعروا عدم الأمان على الإطلاق لوجودهم فى منطقة بالوظة بسيناء، حيث نفذنا عشرات العمليات القتالية ضد الصهاينة فى هذه المعسكرات، وكنت مع عدد من رجال سيناء وقتها وهم: (سالمان أبو عمير والأخوان صبحى وفرحان أبو صلاح ونصر أبو سليم ومسعود سعيد مسعود ومحمد سليم نصر الله وعمران أبو سالم)».
وعن استخدام أبطال سيناء لصواريخ الكاتيوشا يحكى البطل: «فى نهايات عام 69 نفذنا مهام عديدة، كنا نحمل الصواريخ على الجمال كما فعلنا فى مهمة ضرب مطار الميليز ووادى مدكور ووادى عرام، ومازلت أتذكر صيحات جنود العدو الصهيونى واستغاثاتهم وهم يحترقون فى موقع رابعة ببئر العبد بعد ضرب معسكرهم بالصواريخ المحمولة على الكتف فى عمليات عام 1970، ما أعذب صرخاتهم وهم يتأوهون من لظى نيران الثأر لجنودنا العزل فى يونيه 67».
أما عن مهام الاستطلاع فيحكي: «كنت أنا والبطل عيد أبو عوض من العيايدة عند المعدية نمرة (6) نرسل بلاغات تحرك العدو أثناء وقف إطلاق النار خلال معارك أكتوبر 73، فكنا وقتها بمثابة عيون لقواتنا المسلحة، تماماً كما كان دورنا الذى برعنا فيه وقت الاستنزاف، عندما كنا نقوم برصد وتدقيق لضربات المدفعية من الجانب الغربى على مواقع الصهاينة فى الشرق، حيث كنت أبلغ البلاغات المشفرة من خلال جهاز (استونر) الروسى الصنع على مدار الساعة يوميّاً خلال الاستنزاف.
حتى كان النصر المبين فى رمضان 1393/ أكتوبر 1973 على الصهاينة، واكتمل النصر عندما عادت كل سيناء لنا كما تسلمناها من آبائنا طاهرة أبية، وكرمتنا مصر فى 1980 عندما أهدانى الرئيس محمد أنور السادات نوط الامتياز من الطبقة الأولي، الذى ما زلت أنظر إليه مع كل طلعة شمس وأنا أتحدث مع سيناء: «سنسلمك لأبنائنا مرفوعة الرأس عزيزة، وكما ولدنا على ترابك أحراراً سنموت فى ترابك أحراراً».