من الحقائق الكاشفة والملهمة التى تؤكدها الوثائق وآثار التاريخ وبصمات الجغرافيا.. أنه قبل آلاف السنين.. عندما كانت أوروبا تعيش فى غياهب العصور الحجرية والهمجية.. وأمريكا تسكن «اللامنظور«.. كان «هنا» فى أرض الكنانة.. كنانة الله.. من يشيد واحدة من أضخم الحضارات التى عرفتها البشرية ويثبت ويرسخ «قوانين للأمن» تنظم وتحكم مسارات الحركة فى المجتمع.. فى تلك الأزمنة الموغلة فى القدم كان الشعور بالأمن هو أحد «المفاتيح» المهمة التى دخلت من خلالها مصر أبواب البناء والتعمير والنماء.. الشعور بالأمن كان بالفعل «كلمة السر» الكبرى فى تاريخ مصر منذ فجر التاريخ.. الشعور بالأمن نعمة من عظائم النعم.. «الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف«.. الشعور بالأمن من عظائم النعم التى غرسها بديع السماوات والأرض فى ربوع «هذه الأرض» منذ أن خلق «الأرض«.
«الشعور بالأمن» فى مصر.. تاريخ.. تاريخ قديم.. قدم حضارة وادى النيل.. لذلك هناك العديد من الأبحاث والدراسات والكتب تناولت بالرصد والتحليل والتفسير «كيف كان الأمن فى مصر القديمة«.. من بين تلك «الأعمال» التى تناولت تلك القضية نجد كتاب «الشرطة والأمن الداخلى فى مصر القديمة» وهو منطلق الرسالة التى سنسردها اليوم إن شاء الله سبحانه وتعالى ..الكتاب للواء الدكتور بهاء الدين إبراهيم محمود..وقد صدر منتصف «ثمانينيات» القرن الماضى ضمن مشروع قومى تبنته وزارة الثقافة فى ذلك الوقت وحمل اسم «مشروع المائة كتاب» لنشر الثقافة الأثرية والتاريخية..يتناول الكتاب «الأمن» فى مصر خلال «العصور الأولي» بالغة القدم.. االمظاهر.. الأدوات والوسائل.. القوانين.. وآليات التنفيذ.. كما يعرض الكتاب بعض أنواع الجرائم التى كانت تقع فى المجتمع آنذاك وكيف كانت الدولة تواجه هذه الجرائم.
قبل أن أتطرق إلى مضمون ما تناوله اللواء دكتور بهاء الدين إبراهيم محمود فى «الشرطة والأمن الداخلى فى مصر القديمة» أشير إلى ما جاء فى «تقديم الكتاب» أو مقدمته..حيث تصدر مضمون الكتاب «ثلاث كلمات«.. الكلمة الأولى كانت للواء أحمد رشدى والذى كان وزيرا للداخلية وقت إصدار الكتاب.. والكلمة الثانية للدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة فى تلك الفترة..أما الكلمة الثالثة فكانت للدكتور أحمد قدرى رئيس هيئة الآثار المصرية آنذاك.. من بين ماقاله اللواء أحمد رشدى فى كلمته: إن التاريخ على امتداد العصور هو قصة الحياة وخلاصة التجربة الإنسانية فى سعيها الدائب وحركتها الصاعدة نحو ما هو أفضل وأكمل.. وليس من شك أن الشرطة أكثر ما تكون اتصالاً بالمجتمع الإنسانى منذ نشأته الأولى وعلى امتداد حركته عبر العصور.. ومن «هنا والكلام مازال للواء أحمد رشدي» فإن البحث فى تاريخ الشرطة ضرورة واجبة نستكمل من خلالها الجانب الاجتماعى من جوانب تاريخ مصر بكل ما يمتليء به من أحداث تعكس نتائجها على الأمن الداخلى وتترك تأثيرها على حركة الشرطة وأسلوب عملها.. وقال اللواء أحمد رشدى أيضاً: إن لكل عصر ظروفه وتحدياته وليست تجارب الماضى البعيد أو القريب قابلة للنقل صالحة للتقليد ولكن الإحاطة بها نافعة للعقل والوجدان تهييء للشرطة رؤية أكمل وأشمل تكشف عن مدى إسهامها فى مسيرة البناء والتقدم.. وإذا كانت مسئولياتنا العاجلة فى جهاز الشرطة تفرض علينا أن نوجه اهتمامنا للحاضر وأن نحشد جهودنا للمستقبل فليس بوسعنا أن نسقط الماضى من حسابنا ونتجاهل التاريخ فى دراستنا لأن الشجرة الباسقة تمتد فروعها فى السماء بمقدار ما تثبت جذورها فى الأرض.
ومن بين ما قاله الدكتور أحمد هيكل فى مقدمة الكتاب: أن الدراسات الحضارية أن النظام والاستقرارالأمنى متطلبات لا محيص عنها للعطاء والتدفق والاستمرارية فى أية حضارة إنسانية قديمة كانت أو وسيطة أو معاصرة.. وبقدر ما ترتكز مفاهيم الأمن والعدالة على أسس إنسانية تسمو نحو تعميق القيم والانساق الأخلاقية فكرياً ووجدانياً ومفاهيم الحق والخير بقدر ما تسهم هذه الحضارة فى التقدم والارتقاء فى حركة التأريخ العام للبشر.. فالأطر الفلسفية والقانونية والإدارية والسلوكية التى تدعم الخير والعدالة وترسى قواعدها فى أى مجتمع هى قيم إنسانية من شأنها أن تطلق كل طاقات الإبداع والحرية لأفراد ومؤسسات هذا المجتمع لتحقيق الكفاية المادية والكرامة الإنسانية وهى المتطلبات الخالدة التى تعبر عن قصة كفاح الإنسان عبر مسيرته المتطاولة.
أما الدكتور أحمد قدرى رئيس هيئة الآثار المصرية وقت إصدار الكتاب فقد قال فى كلمته: استقر مفهوم النظام والصدق والعدالة فى ضمير الإنسان المصرى القديم مشكلاً نغمة رئيسية فى ممارسات حضارته فى الديانة والفن والسياسة والإدارة والمجتمع على حد سواء.. ولا ريب أن هذه القيم قد تأسست على حس مرهف بالأمن وأهميته فى تحقيق الاستقرار وتعميق روح التفاؤل وحب الحياة والتى بلورت فى النهاية مفهوم «الخلود» فى الحضارة المصرية القديمة.. ووصف الدكتور أحمد قدرى كتاب «الشرطة والأمن الداخلى فى مصر القديمة» بأنه: إضافة جديدة لاكتشاف اهتمام الدولة فى مصر القديمة بمفاهيم الأمن والأمان و«سيادة القانون» المؤسسة جميعها على قيم واضحة من العدالة والحق والأخلاق طبعت هذه الحضارة بطابعها الإنسانى المميز بين شعوب العالم القديم.
فى بداية كتابه.. يقول اللواء الدكتور بهاء الدين إبراهيم محمود: على جنبات هذا الوادى قامت أعرق حضارات التاريخ.. ففى أعماق الزمن والإنسانية لاتزال فى المهد كان التاريخ المصرى يسجل أول انتصارات الإنسان.. وإننا لسنا نستطيع أن نتصور أن تقوم تلك الحضارة وأن يمتد بها الأجل الطويل إلا إذا عم السلام واختفت الفوضى وغمر الناس تفاؤل بالحياة واطمئنان لها.. كما لسنا نستطيع أن نتصور يد الفنان المصرى القديم تبدع هذه «المعجزات» من النحت والرسم بينما المجتمع الذى يعيش فيه ويستلهم منه يعانى الخوف ويعيش الفوضي.. ولا نستطيع كذلك أن نتصور قيام تلك الأهرامات الشامخة والمعابد الهائلة والمقابر الممتدة فى قلب الجبال الضخمة يستخدم فيها آلاف العمال ويتم البناء فى دقة مدهشة دون أن يكون هناك نظام ثابت مستقر يفرض على كل فرد أن يأخذ ما له ويعطى ما عليه.. ويواصل اللواء الدكتور بهاء الدين إبراهيم محمود: إن النظرة الشاملة لمسار الحضارة المصرية القديمة وما تركته من آثار مادية واتجاهات فنية وفكرية تكشف عن قيام أمن داخلى نستنتج وجوده قبل أن نبحث جوانبه وتفاصيله.
ويتحدث الكتاب فى «إشارة أخري» عن الأمن فى مصر القديمة وكيف أن «العلاقة الوثيقة» بين تماسك الجبهة الداخلية و قوة الجبهة الخارجية قد تشكلت مبكرا..فيقول : إن البلاد فى تلك الفترة عرفت نظاماً مستقراً وآمناً مستتباً تقوم عليه حكومة قوية تفرض سيطرتها الكاملة على كل البلاد.. بحيث يمكن استنتاج مظاهر استتباب الأمن واستقرار النظام من استمرار الحملات الخارجية وتتابعها ونجاحها.. ويستطرد الكتاب: إن اطمئنان إدارة الدولة فى تلك الفترة لحالة البلاد الداخلية هو الذى جعلها تفكر فى التوسع الخارجي.. بل إن الحملات الحربية الخارجية فى ذلك الوقت لم يكن يقدر لها النجاح إلا بقيام الحكومة القائمة دائما ببسط سيطرتها الكاملة على أنحاء البلاد وإقرار النظام والأمن فيها.. ويعرض الكتاب ما جاء فى لوح حجرى يسجل أعمال الملك تحتمس الأول والذى كان من بين أقواله: لقد جعلت حدود مصر واسعة كدائرة الشمس وقويت الذين كانوا فى خوف وطردت عنهم كل الشر وجعلت مصر سيدة كل البلاد.. كما جاء على نفس الأثر قول تحتمس الأول عن أعماله أيضاً: أليس هو الذى نشر الأمن فى البلاد ورفع من شأن شعبه.. وجاء فى كتاب «الشرطة والأمن الداخلى فى مصر القديمة» أيضاً أنه فى عام «1936» تم العثور على لوحة فى الجهة الشمالية الشرقية لتمثال «أبو الهول» أقامها الملك أمنحتب الثانى تذكارا لزيارته التى قام بها إلى تمثال «أبو الهول» جاء فيها: كل الأراضى الأجنبية تخافه وقد حزم له رؤساء قبائل البدو التسعة والأرضان فى قبضته وأهل مصر فى وجل منه.
ويستكمل اللواء الدكتور بهاء الدين إبراهيم محمود قائلاً: إنه وتأكيداً لاستتباب الأمن فقد أطلق الملك أمنحتب الثالث على نفسه لقب «موطد القانون«.. كما أن الوادى لم يكن وحده موضع عناية ملوك هذه الفترة بل اهتموا أيضاً كل الاهتمام بمناطق الصحراء والطرق المؤدية إليها.. وتصور مقبرة «أمنمسو» أحد وجهاء ذلك العصر خلال عودته من طريق قفط بعد تبادل التجارة بين مصر وبلاد بنت وكان أتباعه يسيرون خلفه على الأقدام لا يحملون أى أسلحة سوى عصى قصيرة.. ويرى اللواء الدكتور بهاء الدين إبراهيم محمود هنا أن فى تلك الصورة المنقوشة على مقبرة أمنمسو دليل واضح على أن هذا الطريق أصبح مؤمناً بالشرطة وأن سكان هذه المنطقة من الصحراء قد ألزموا باحترام الأمن والمحافظة على النظام.. وينقل الكتاب عن «حتشبسوت» وهى تتحدث عن جهودها فى إقرار الأمن وتوفير السلام فى المناطق الصحراوية.. كما أشارت النقوش الأثرية إلى اهتمام الدولة بتوفير الأمن بكافة المناطق الساحلية والشاطئية أيضاً حيث تشير بعض النقوش إلى أن أمنحتب الثالث قام بتعيين خفر حربى للسواحل يمر على شواطئ الدلتا لمنع القراصنة من الاقتراب من مصر كما لا يتم السماح بالدخول فى مصبات النيل إلا للسفن التجارية القانونية.. ولقد تم حراسة الطرق البرية كذلك وكان كل أجنبى تتم رؤيته داخل البلاد بسبب غير مصرح به كان جزاؤه الطرد إلى حيث أتي.
وجاء فى الكتاب أيضاً أنه: ساعد على إقرار الأمن والنظام فى البلاد أن النظم الإدارية ذاتها كانت قد وصلت إلى قمة نضوجها وظهر رجال إداريون ممتازون يديرون الشئون الداخلية فى براعة وحزم «تحت إشراف» رجال إدارة لم يشغلهم خارج البلاد عن داخلها..ويقدم الكتاب «نصاً أثرياً» لأحد الوزراء فى العصر القديم هو «رخميرع» حيث أعلن بمجرد توليه المنصب عن عدد من الثوابت التى سيقوم بتنفيذها فقال: وأما أولئك الذين تذبذبت قلوبهم وأعوزتهم الاستقامة فإن سياج الملك قد أخضعهم.. قضيت بين الفقير والغنى بالقسطاس المستقيم.. وخلصت الضعيف من القوي.. ووقفت فى وجه غضب الأحمق وسحقت الجشع فى ساعته.. وقمعت ضيق المحتاج فى وقته وأعنت الرجل المسن مانحاً إياه عصاي.. وكرهت الظلم ولم أرتكبه.. وجعلت الأشرار يمشون منكسى الرءوس.. بعلق اللواء الدكتور بهاء الدين إبراهيم محمود على الأمن فى مصر خلال تلك الفترة القديمة فيقول إن هذه الفترة فى تاريخ البلاد كانت فى أمجد أيامها بالنسبة للحملات الخارجية وأعظم أيامها من ناحية النظام والأمن فى الداخل.
خلال تناوله للأمن فى مصر القديمة.. أشار كتاب «الشرطة والأمن الداخلى فى مصر القديمة» إلى وجود الشرطة فى العصور المبكرة من تاريخ مصر.. حيث جاء فى الكتاب أن تواجد الشرطة كان واضحاً فى كل من عصر الأسرات المبكر.. عصر الدولة القديمة.. العصر الاقطاعى الأول.. الدولة الوسطي..الدولة الحديثة.. وتحدث الكتاب عن وظيفة جاز الشرطة واختصاصاتها والمهام الموكلة إليها فى تلك العصور.. ويروى الكتاب أن من ببن الوسائل التى كانت تستخدم فى المهام الشرطية ومواجهة الجرائم.. وجود سجلات تحتوى على أسماء المجرمين والجرائم التى ارتكبوها من قبل.. كذلك كان استخدام الكلاب فى الحراسة والقبض على المجرمين.. بالإضافة إلى اقتفاء الأثر… وكانت سرقة المقابر تعد من أكثر الجرائم انتشاراً فى مصر القديمة نظرا لما كانت تحتويه من ذهب ومقتنيات للميت كان يتم دفنها معه وكان اللصوص يتحينون الفرصة لسرقتها.
من بين ما نصت عليه «قوانين العقوبات» التى ذكرها اللواء الدكتور بهاء الدين إبراهيم محمود فى كتاب «الشرطة والأمن الداخلى فى مصر القديمة» هو توقيع عقوبة الموت على من يحلف يمينا كاذبة وإذا رأى أحد رجلاً يقتل أو يعانى أذى ما دون أن ينقذه وكان قادراً على ذلك استحق عقوبة الموت.. أما إذا لم يكن قادراً على المساعدة تحتم عليه الإبلاغ عن اللصوص واقتفاء أثر الجريمة ومن تهاون فى ذلك يتم جلده ويحرم من الطعام ثلاثة أيام.. كما نصت العقوبات «وفقا لما جاء فى الكتاب» على معاقبة من يقتل شخصاً عمداً بالموت على أن لا يتم تنفيذ العقوبة بالنسبة للنساء المحكوم عليهن بهذه العقوبة إذا كن «حوامل» حيث يتم تأجيل التنفيذ إلى بعد أن يضعن.. ونصت العقوبات كذلك على قطع ألسنة كل من يفشى «الأسرار» للأعداء.. وقطع أيدى مزيفى النقود ومطففى الموازين والمكاييل والمزورين والغشاشين.. هكذا كانت كنانة الله قبل سبعة آلاف سنة.. أمن.. قانون.. حضارة.. يوم أن كانت أوروبا تعيش فى غياهب الهمجية.. وأمريكا تسكن «اللامنظور«.
من خرج فى طلب العلم كان فى سبيل الله حتى يرجع.. صدق حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد..اللهم بارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم فى العالمين انك حميد مجيد.. وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فلسطين.. أرض الأقصى.. أرض المحشر.. أرض المسرى.. مسرى حبيبنا وسيدنا محمد رسول الرحمة والإنسانية.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.