هناك أيام لا تنسى فى خريطة العمر؛ بوصفها علامات فارقة تحدد مصير الإنسان وتبنى مستقبله؛ فمثلاً كانت فرحتى فرحتين فى عام 76؛ ذلك أنى تخرجت فيه ضمن الدفعة الثانية لكلية الإعلام بجامعة القاهرة، وفى أكتوبر من العام نفسه قام الصحفى الكبير الراحل محسن محمد بتعيينى محررًا بجريدة الجمهورية التى نحتفل هذا الأيام بذكرى تأسيسها الحادية والسبعين، دون وساطة بعد أن تدربت بها طيلة العام الذى تخرجت فيه، وقد قضيت بها عمرى ، وبدأت فيها مسيرتى محررًا ثم رئيس قسم، فنائب رئيس تحرير؛ فنائبًا أول لرئيس التحرير، ثم رئيسًا لتحرير كتاب الجمهورية فرئيسًا لمجلس الإدارة.. ثم قدمت استقالتى طواعية بعد أحداث يناير المشئومة.
والجمهورية ربما تكون الجريدة الوحيدة التى كتب فيها السادات وشغل منصب رئيس مجلس إدارتها بعد أن قدم 300 جنيه وقتها كضمانة شخصية حتى توافق إدارة المطبوعات على إصدارها ثم عمل مديراً عاماً لها؛ فرئيساً لمجلس إدارتها، وأصدر عبدالناصر رخصتها موقِّعًا طلب إنشائها، ثم خطّ بقلمه افتتاحيتها الأولي…ثم افتتح الرئيس مبارك مطبعتها ومبناها الجديد بشارع رمسيس.
محطات تاريخية تعيدنا لذكريات قاربت على نصف القرن، جرت فيها مياه كثيرة وتحولات تاريخية عظيمة ورغم أن «الجمهورية» ابنة ثورة يوليو وإحدى ثمراتها فإنها لم تشتهر أو تكتسب شعبيتها من كونها صنيعة تلك الثورة وأحد منجزاتها فحسب بل عرفت بحسبانها صحيفة الشعب، تقدم خدمات متميزة لقرائها الذين أحسوا بفطرتهم الصافية إزاءها بأنها تجاوب صادق وصائب لكل ما يجول فى نفوسهم من آمال وآلام وطموحات وأحلام ، وأنها ساعدهم الأيمن فى نيل حقوقهم ودرء الظلم عنهم عبر التواصل الجاد مع المسئولين نيابة عنهم وهو الدور الذى نهض به بامتياز خطها الساخن «139 جمهورية» الذى انفردت به «الجمهورية» على سائر الصحف ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى كله؛ فمندوبوه لا يكلون ولا يملون فى استقبال شكاوى الجمهور واستغاثاته يطوفون بها على المصالح والأجهزة الحكومية المختلفة، ويطرقون أبواب المسئولين والوزراء بحثاً عن حق تأخر عن صاحبه، أو دفعاً لمشقة قد لا يطيقها ذوو الحاجة.. وهم حين يفعلون ذلك يؤدون أول رسالة «الجمهورية» التى تقدم للناس كافة، فضلاً على قرائها، ما يحتاجون إليه فى أعمالهم ومعاملاتهم ورحلاتهم وأسفارهم..فأين ذهب «الخط الساخن»؛ الرقم المميز والخدمات المتفردة..؟!
من يتأمل مسيرة الجمهورية وتاريخها يجدها صوتاً للشعب ومدافعاً عن قضاياه، اهتمت بشواغل الوطن وهموم المواطن وأحلامه وطموحاتها.. تتحسس نبضه، وتستشرف طموحاته وتلبى احتياجاته وتتبنى مطالبه ومظالمه لتضعها بين أيدى المسئولين حتى ارتقت يوماً أعلى درجات المجد وازداد الإقبال عليها حتى وصل توزيعها لأكثر من 850 ألف نسخة، وقد شهدت أرقام التوزيع زيادة على أيدى الأساتذة الكبار: محسن محمد وسمير رجب ومحفوظ الأنصاري.
والسؤال: لماذا حققت الجمهورية تلك القفزة الكبيرة فى أرقام توزيعها..والجواب يعيدنا إلى ما انتهجته الصحيفة من خط تحريرى متميز، أخلصت فيه لقرائها ورسالتها وسايرت الأحداث الكبرى التى مرت بها البلاد وناصرت قضاياها المصيرية؛ فناضلت ضد الاستعمار ومدت يد العون لحركات التحرر الوطنى فى سائر قارات الدنيا، وقاومت القوى الإمبريالية وتكتلاتها وانحيازاتها الظالمة ضد الشعوب المستضعفة ودعت إلى سياسة عدم الانحياز وروجت للمبادئ الاشتراكية، كما دافعت باستماتة عن حق شعب فلسطين وقضيته.
ومع أن الجمهورية أريد لها فى البدء أن تكون صحيفة رأي.. لكنها سرعان ما تجاوبت مع سنن التطور ومستجدات العصر ومتطلباته ولم تقتصر على هذا اللون الصحفى على أهميته فتحولت كغيرها من بنات زمانها إلى صحافة الخبر الذى تربع على عرش الصحافة وقتها، ويممت وجهها شطر قرائها لتشبع نهمهم فى معرفة ما يجرى حولهم من أحداث متسارعة تتحكم فى حاضرهم وتصنع مستقبلهم، ولم تقف فى مسيرة تطورها عند حدود «الخبر» فقط بل قدمت لقارئها معلومات متنوعة ذات إيقاع سريع تفيده فى حياته اليومية وتزيد معرفته بما يجرى فى العالم من حوله.. وهكذا انتقلت «الجمهورية» بقدرة مدهشة من جريدة للثورة إلى جريدة للشعب تدافع عن حقوقه وتتبنى قضاياه وتخاطب جمهوراً عريضاً فى مساحته العددية والمكانية والحضارية؛ جمهوراً متنوعاً يجد ضالته المنشودة على صفحاتها وفى أبوابها المختلفة.
خاطبت الجمهورية منذ خرجت للنور جميع فئات المجتمع مع انحياز واضح للبسطاء منهم، بما تقدمه صفحاتها المتنوعة وملاحقها المتخصصة، ورغم أنها صدرت فى أجواء صحفية شديدة التنافسية سرعان ما أثبتت كفاءتها، وانطلقت تؤدى رسالتها على مدى أكثر من نصف قرن، ترصد ما يجرى حولها من أحداث على الصعيدين العربى والعالمي؛ ذلك أن الله قيض لها كوكبة من الصحفيين والكتاب العظام الذين ازدادت بهم شهرتها وذاع صيتها وعلا شأنها، وتعاقب على رئاسة مجلس إدارتها وتحريرها نخبة متميزة وشخصيات ذوو شأن من رجال الثورة والسياسة والأدب والثقافة والصحافة، كان على رأسهم الرئيس الراحل أنور السادات.. تاريخ طويل قطعته الجمهورية لتسطر تاريخًا يستحق أن يروى بأمجاده وإنجازاته، لنستلهم منه الدروس والعبر فى أوقات صعبة، تحتاج فيه صحافتنا وإعلامنا كله أن تعيد قراءة المشهد الجديد بمتغيراته وتحدياته.