عشق مصر
وأوصى بنقل جثمانه ليدفن فى مقابر البساتين
أزمته مع أم كلثوم متوارثة من عداوة أسمهان
نصف قرن من الزمان تمضى على رحيل أحد أهم أعلام الموسيقى والغناء والتلحين، فنان امتلك موهبة موسيقية بالفطرة، وصوت فاض عذوبة أشجت مستمعيه بإحساسه المرهف، وأبدع فى فنه فلقب بالملك والأمير، عندما برع فى العزف على معشوقته « آلة العود» فلقب بملك العود، وأطرب من حوله بأغانيه العذبة ذات الشجن الحزين فلقب بأمير الغناء، وتألق فى ألحانه وموسيقاه فترك بصمته التى لا تمحى على الأغنية والموسيقى الشرقية، إنه الفنان الكبير فريد الأطرش والذى حافظ على أصول الموسيقى العربية والشرقية، كما لم يتوقف عطاؤه الفنى عند الموسيقى والغناء فقط بل امتدت موهبته الفنية للشاشة الفضية، وقدم للسينما المصرية والعربية مجموعة من أروع الافلام نجح فيها كممثل أجاد فى أدوارها، كما تمكن من خلالها أن يقدم أغانيه الشجية وألحانه المتميزة التى عشقها جمهوره الكبير فى دول الوطن العربي، بل وبرز فى تقديم الأوبريتات الغنائية والتى تميز بها عن أقرانه من الفنانين.
الأيام تمر والسنوات تجرى لنجد أنفسنا نحتفل بمرور 50 عاماً على رحيل ذلك الفنان العملاق فى عطائه الفني، حيث تواكب موعد رحيله – الخميس 26 ديسمبر فقد رحل فريد الأطرش مساء الخميس أيضاً – 26 ديسمبر عام 1974 – بمستشفى «الحايك» بالعاصمة اللبنانية بيروت عن عمر بلغ 64 عاماً، ولحبه ولعشقه لمصر أوصى شقيقه الأكبر فؤاد الأطرش بأن يدفن فى القاهرة بجوار شقيقته الصغرى أسمهان، ولكن عائلته وكبار قبيلة الدروز اعترضوا على نقل جثمانه إلى مصر بل إنهم أحاطوا المستشفى بأكثر من 400 رجل مدججين بالبنادق الرشاشة مطالبين بدفن جثمانه فى مقابر العائلة.
وحاول شقيقه فؤاد الأطرش إقناع كبار العائلة وسادة أهل جبل الدروز بأن وصية شقيقه فريد الأطرش أن يدفن فى مصر، وبعد محاولات مضنية تمكن من إقناعهم بأن وصية المتوفى واجبة، وبالفعل تم وداعه والصلاة على جثمانه بأحد مساجد بيروت، لينتقل النعش وسط حشد هائل من جماهير أهل الشام إلى مطار بيروت، ومن ثم يحضر الجثمان إلى مطار القاهرة – يوم السبت 28 ديسمبر- ليستقبله الآلاف من محبيه وعشاقه وأصدقائه، ويتجهون به إلى مسجد عمر مكرم بميدان التحرير وسط طوفان من البشر يهتفون ويبكون بهيسترية نجمهم الكبير، وتصل الجنازة لمدافن البساتين وسط الحشود الهائلة ويدفن ملك العود وأمير الغناء فى أرض مصر والتى تربى فى أحيائها وكبر ولمع نجمه، لتأتى مقبرته فى مصر تأكيداً لحبه وعشقه لها ولعبارته الخالدة «لحم أكتافى من مصر». !!
( الميلاد بجبل الدروز )
ولد فريد فهد فرحان الأطرش فى 19 أكتوبر 1910 فى منطقة جبل الدروز الواقعة فى جنوب سوريا ولبنان، فهو ينتمى إلى عائلة آل الأطرش إحدى العائلات العريقة فى منطقة جبل الدروز بالجنوب الغربى لسوريا، ووالدته هى الأميرة علياء حسين المنذر، وكان فريد هو الأخ الثانى بين أشقائه الخمسة فؤاد وآمال، وأنور ووداد اللذين توفيا فى طفولتهما، كما كان له أخ أكبر يدعى طلال من زوجة أبيه الأولى طرفة الأطرش.
وفى طفولته عاش فريد حرباً مع أهله وعشيرته ضد الاحتلال الفرنسي، وكان والده الأمير فهد الاطرش متزعماً تلك الحرب، فخشى على أسرته الصغيرة من الفرنسيين، فعمل على إبعاد الأسرة من ويلات الحرب وتهريبهم إلى مصر خوفاً من جنود الاحتلال الفرنسى فى اعتقال أسرته كى يكونوا ورقة ضغط عليه ويسلم نفسه لهم، وبالفعل وصلت الأسرة الصغيرة الأم علياء المنذر وأبناؤها الثلاث فؤاد وفريد وآمال «أسمهان» للقاهرة بعد موافقة الزعيم سعد زغلول رئيس الوزراء بدخولهم مصر، ليعانى فريد وإخوته من رؤية والدهم مبكراً.
( عائلة كوسا )
عاشت الأسرة فى شقة صغيرة تتكون من حجرتين بالفجالة، وألحقت الأم علياء المنذر ابنيها فؤاد وفريد بمدرسة الخرنفش بحى الظاهر، وخوفاً من أعين الفرنسيين قامت بتغيير لقب العائلة من الأطرش إلى «كوسا» مما كان سبباً فى أن يتندر زملاؤهما فى المدرسة عليهما، ولكن الولدان تحملا إهانات زملائهم حتى لا ينكشف أمرهما، ثم ما لبث أن انتقلا لمدرسة أخرى وهى البطريركية الخاصة بالروم الكاثوليك.
ولظروف القتال والحرب لم تكن الإعانات وإمدادات مساعدة الأهل تصلهم، كما نفدت الأموال التى كانت تحتفظ بها أمه، وانقطعت أخبار والدهم حتى جاءتهم الأنباء بمقتله عام 1925، ومع الحاجة وشدة الفقر اضطررت الأم التى كانت تتمتع بصوت جميل، أن تستغل جمال صوتها فذهبت للأديرة والكنائس تغني، ولكن المقابل المادى محدود مما دفع الأبناء للنزول لسوق العمل لمساعدة الأسرة، فعمل فريد الأطرش فى محلات الأقمشة بمنطقة العتبة والموسكي، كما عمل فى الدعاية بتوزيع إعلانات عن السلع لكى يوفر جزءاً من مصاريف الأسرة.
( بديعة مصابنى )
بدأت موهبة فريد الأطرش تتجلى فى المدرسة عندما كان يغنى وسط زملائه، فسمعه مصطفى رضا مدير المدرسة فنصحه بأن يلتحق بمعهد الموسيقى العربية الكائن حتى الآن بشارع رمسيس، وبالفعل تم قبوله والتحق بالمعهد خلافاً لرغبة أمه التى كانت ترغب بأن يكمل دراسته فى المدرسة، وهناك ظهر نبوغه المبكر فى تمكنه من العزف على آلة العود، وبعد عام من الدراسة التقى بالمطرب إبراهيم حمودة الذى أعجب بعزفه فضمه لفرقته كعازف على آلة العود، ثم بدأ يبحث عن أماكن أخرى لينطلق منها للجمهور.
وبالفعل تمكن من الوصول لملهى بديعة مصابنى التى ألحقته بفرقتها كعازف، وتمكن من أن يلفت الأنظار لبراعته فى العزف، مما دعا الإذاعى مدحت عاصم رئيس الإذاعة المصرية وقتها إلى أن يتعاقد معه فى أن يعزف على العود عشر دقائق مرة واحدة كل أسبوع بمقابل مائة قرش فى كل حلقة، ولإقتناعه بصوته قرر دعمه والوقوف بجواره ومنحه أول لحن فى حياته لأغنية «كرهت حبك من كتر صدك» من كلمات عبدالعزيز سلام.
وتجرأ فريد الأطرش ليطلب من بديعة مصابنى أن يكون عازفاً ومغنياً، فألحقته بمجموعة الكورس، ولكنه تمكن من إقناعها بأن يغنى فقرة صغيرة على المسرح بمفرده، ثم ما لبث أن تم اعتماده مغنياً فى الإذاعة المصرية، ليقدم أول أغانيه ومن الحانه «ياريتنى طير أطير حواليك» أشعار الفلسطينى يحيى اللبابيدي، والتى قام بتسجيلها فى الإذاعة مستعيناً بفرقة موسيقية بها أشهر العازفين وأمهرهم على رأسهم عازف الكمان أحمد الحفناوي، والتى لاقت نجاحاً كبيراً، ويوافق مدحت عاصم أن يغنى فى الإذاعة مرتين فى الأسبوع، فحرص خلال فترة الثلاثينات أن يكون منتظماً فى توقيت غنائه بالإذاعة المصرية، ليذاع صيته كملحن وعازف ومطرب وتبدأ معه أولى خطوات الشهرة والنجومية.
( الشاشة الفضية )
أدرك فريد الأطرش أهمية السينما فى حياته الفنية كمطرب، فكما ساهمت الإذاعة فى التعريف به للجمهور، ومن ثم تألق واشتهر كفنان قدير، لم يتوان فى أن يخوض تجربة الظهور على الشاشة الفضية التى كانت فى سنواتها الأولي، وخاصة أن هناك أسماء لمعت من خلال القيام ببطولات أفلام وقدموا موهبتهم الغنائية كأفضل وسيلة للانتشار السريع، وأقرب مثال الفنان محمد عبدالوهاب والمطربة أم كلثوم والمطرب محمد عبدالمطلب، فكانت الخطوة الأولى مع شقيقته أسمهان عندما لعبا بطولة الفيلم الغنائى «انتصار الشباب» إخراج أحمد بدرخان عام 1941، وتكفل فريد بوضع جميع ألحان أعانى الفيلم له ولشقيقته الذى أعتبر بعد ذلك الفيلم الوحيد الذى جمع بينهما، ثم توالت الأفلام فقدم فى العام التالى 1942 فيلم « أحلام الشباب» مع تحية كاريوكا.
تعاون فريد الأطرش مع عدد كبير من شعراء الأغنية أبرزهم الشاعر أحمد رامي، وأحمد شفيق كامل، وإسماعيل الحبروك، وبشارة الخوري، وبديع خيري، وبيرم التونسي، وأمين صدقي، وكامل الشناوي، ومأمون الشناوي، ومن أشهر أعماله الغنائية الخالدة : عش أنت – أول همسة – الربيع – ياحبايبى ياغايبين – بقى عايز تنسانى – ارحمنى وطمنى – بنادى عليك – أنا كنت فاكرك ملاك – حبيب العمر – حكاية غرامى – زينة زينة – ساعة بقرب الحبيب – عينيه بيتضحك وقلبى بيبكى – قلبى ومفتاحه مش كفاية ياحبيبى – نورا نورا – ما تحرمش العمر من عطفك عليا – جميل جمال – ياقلبى يامجروح – قالت لى بكره – جئت يايوم مولدي.. وغيرها من الأغنيات التى نرددها حتى اليوم حيث تخطى رصيد أعماله الغائية أكثر من 220 أغنية وقصيدة قدمها فيما يقرب من نصف قرن، ومعظم تلك الأعمال قدمها فريد من خلال الافلام السينمائية التى لعب بطولتها.
( ألحان فريد للنجوم )
شهد الوسط الغنائى ألحان الموسيقار الكبير فريد الأطرش لعدد كبير من المطربين والمطربات اقتربت من 80 لحناً، حققت لهم نجاحاً كبيراً لهم من بينهم الفنانة الكبيرة سعاد محمد والتى غنت له رائعته بقى عايز تنساني، ومن شدة نجاح القصيدة أعاد فريد غناءها بصوته، وأيضاً الفنان محرم فؤاد الذى غنى له ياواحشنى رد عليا إزيك سلامات،ووديع الصافى على الله تعود، وفايزة أحمد ياحلاوتك ياجمالك، ووردة أحبابنا ياعين، وشادية فى أكثر من أغنية أشهرها دويتو ياسلام على حبى وحبك، والفنانة صباح والتى غنت له أحبك يانى -يادلع يادلع – أحبك يانى – زنوبة، إلى جانب نور الهدى وسميرة توفيق وثريا حلمى وإسماعيل يس.
كما كانت شقيقته أسمهان أول من غنت من ألحانه ولها اكثر من عشر أغنيات من بينها تلحينه لجميع أغانى أسمهان فى فيلمهما الأول «انتصار الشباب» وهى : ياللى هواك – إيدى فى إيدك – يا بدع الورد يا جمال الورد – الشمس غابت أنوارها – ليالى البشر – وأوبريت الختام «انتصار الشباب»، إلى جانب أغنيتين من فيلمها الثانى والأخير «غرام وانتقام» فلحن لها القصيدة الرائعة ليالى الأنس فى فيينا، وقهوة، ثم جاءت صدمة فريد فى وفاة شقيقته أسمهان وتمكن من أن يعبرعن أحزانه فى رحيل شقيقاته من خلال ثلاث أغنيات رثاء فى رحيلها هى: يا زهرة فى خيالى – يا منى روحى سلاماً – كفاية يا عين بيتبكى على الغايبين.!!
( أزمة أم كلثوم )
وبالرغم أن ألحان فريد الأطرش نجحت مع جميع زملائه، إلا أنه لم يتمكن أن يعطى لحناً لكوكب الشرق أم كلثوم، ولا يخفى أنها كانت أمنية من أمنياته أن تغنى له أم كلثوم، وحانت أكثر من فرصة ساهم فيها الأصدقاء المشتركون إلا أنها لم تكلل بالنجاح، وفى نهاية الأربعينات عرض عليها لحن قصيدة «الربيع » والتى قام بكتابة كلماتها بنفسه، واستمعت لها أم كلثوم وأعجبت بها إلا أنها تحججت بأمور كثيرة كى لا تغنيها، فغضب فريد الذى رأى أن الأغنية قد لحنها خصيصاً لها ومن الصعب أى صوت آخر يغنيها، فأعلن بأنه سيقوم بغنائها بنفسه وبالفعل قام بغنائها وأدرجها فى فيلمه الشهير «عفريتة هانم»، ونجحت نجاحاً مبهراً لدرجة أنها ارتبطت به، فلا يأتى فصل الربيع إلا ويقوم بغنائها فى حفلات شم النسيم.
وتناسى فريد الأطرش رغبته فى التلحين لأم كلثوم حتى جاءت فترة الستينات بلقاء السحاب بين محمد عبدالوهاب وأم كلثوم فى أغنية «إنت عمرى»، ورأى فريد أنه يستطيع تقديم ألحان لا تقل عن ألحان عبدالوهاب لأم كلثوم، فرأى أن يبتعد عن الأغانى العاطفية وقدم لها لحناً لأغنية وطنية عن فلسطين بعنوان وردة من دمنا « من أشعار بشارة الخورى انبهرت بكلماتها والحانها وابدت موافقتها المبدئية لأن تغنيها.. إلا أن الأيام طوت تلك الأمنية والرغبة بدون أى مبرر.
وحاول فريد الأطرش إيجاد أسباب تراجع أم كلثوم عن الغناء من ألحانه، فوجد أن من أهم الأسباب العداوة التى كانت بينها وبين شقيقته أسمهان والتى بدأت فى نهاية الثلاثينات وحتى رحيلها فى منتصف الأربعينات، فتلك المنافسة جعلها ترفض العمل مع شقيق منافستها الوحيدة على مدار تاريخها، وقد كان متعجباً من تعاملها مع شباب الملحنين أمثال بليغ حمدى ومحمد الموجى وكمال الطويل، وتتهرب من العمل معه، وهو الموسيقار الكبير الذى لم يتجرأ ملحن من ملحنى الساحة أن يعطيه لحناً لأنه يعلم بأن لحنه سيكون أقل قيمة من لحنه، ففريد الأطرش لم يغن لأى ملحن آخر سوى مدحت عاصم فى أغنية واحدة عند بداياته، لذلك رأى أن أصدقاء أم كلثوم من الموسيقيين كانوا وراء ذلك لأنهم يدركون بأن ألحانه ستتفوق على ألحانهم لو تغنت بها أم كلثوم، إلى جانب أن أم كلثوم خشت أن غنت من ألحان فريد الأطرش، بأنه سيعيد غناء تلك الأعمال وستكون هناك مقارنة بينهم.
( قصص الحب )
عاش فريد الأطرش قصص حب عديدة، ولأنه فنان فإن علاقاته العاطفية لم تتوقف، وبالرغم من صدقه فى قصص حبه إلا أنها لم تكلل بالزواج، ولكى يعلل عن أسباب عدم زواجه أرجع ذلك بان الفنان لن يستطيع أن يوفق بين فنه وأسرته، فواجبات العائلة والأسرة ستؤثر حتماً على عمله الفني،وكانت أشهر قصة حب فى حياته حبه للفنانة سامية جمال والتى تعاونا خلالها فى أجمل ستة أفلام بالسينما المصرية بدأها بفيلم «حبيب العمر» عام 1947، ثم فيلم «عفريتة هانم» والتى غنى فيها رائعته الربيع عام 1949، وفى نفس العام أيضاً قدما فيلم «أحبك إنت» وهو الفيلم الذى ظهر فيه رفعت الجمال الشهير برأفت الهجان فى مشهد راقص قام خلاله برفع سامية جمال على ذراعه وطاف بها أثناء تأدية الرقصة.
وهناك فيلم «آخر كدبة» عام 1950 وهو آخر أفلام الفنانة كاميليا التى لاقت حتفها فى حادث الطائرة الشهير، ثم فيلم «تعال سلم» عام 1951.. وودع الحياة بإرث ثقافى فنى يظل خالدًا فى تاريخ السينما المصرية والعربية.