منذ نعومة أظفارنا ونحن نعيش ما يسميه الحالمون فى وادينا الطيب «وضعا استثنائيا» ويطلق عليه رجال السياسة «ظرفا دقيقا» بينما يعتبره خبراء العلاقات الدولية «زمن التحولات الكبري» أما رجال الاقتصاد فيقولون «مرحلة صعبة وغير مسبوقة ولا يمكن ان تستمر»، أما المواطن البسيط فيقول «أيام شبه بعضها»، لكن ما لم ينتبه اليه الكثيرون أن حياتنا باتت سلسلة متتالية من الظروف الصعبة والدقيقة والاستثنائية وغير المسبوقة إلى آخر هذه العبارات، لقد ضبطت نفسى متلبسا بتهمة الانغماس فى التفاصيل والأحداث مستخدما نفس المفردات والمصطلحات التى تعبر عن كوننا نعيش وضعا أو ظرفا استثنائيا.
<<<
والحق أقول واسجل هنا أننى اخطأت كثيرا، اخطأت حينما كنت أنظر إلى الأحداث الإقليمية على انها عابرة وسرعان ما ستهدأ الأمور، اخطأت كذلك حينما كنت اربط دائما توقعاتى السياسية لإقليمنا البائس بنتائج الانتخابات الأمريكية والحديث «غير الناضج» عن المقارنات والمقاربات بين الجمهوريين والديمقراطيين وأيهما سيكون أفضل لنا وللمنطقة، كنا كذلك ننظر فى بلاهة عجيبة إلى نتائج الانتخابات الاسرائيلية وننتظر ان ينجح الحزب الذى يضم حمائم أكثر من الصقور ونحن لا ندرى أنه ليس بين القنافد أملس، كنا ننتظر مرور السنوات الأربع والتى نراها استثنائية لرئيس أمريكى لا ننتظر منه خيرا للمنطقة، كنا ننتظر مرور السحب الداكنة منتظرين ان يصفو لنا الجو وتسطع أشعة الشمس ونحن لا ندرى أن السحب الداكنة تلك التى نتمنى مرورها ستمر قطعا، لكن السحب القادمة ربما كانت أكثر سوءا وقتامة، عشنا فى دوائر خبيثة ننتقل من أزمة إلى أزمة أشد ومن حلم لم يتحقق إلى حلم جديد لن يتحقق، ويصل قطار العمر إلى محطة الوصول والنهاية ويكتب على شواهد قبورنا «ولدوا فى ظروف استثنائية وعاشوا ظروفا استثنائية وماتوا فى ظروف استثنائية».
<<<
يا سادة: المشكلة ليست فى الظروف الاستثنائية وإنما المشكلة الحقيقية تكمن فى وصفنا لها بأنها استثنائية ! انها ظروف واحداث عادية ومستمرة ومتغيرة، فلابد وان نتعامل مع الاستثناء على انه ليس استثناء، انه تحول إلى أمر عادى ومعتاد، فالقضايا السياسية والصراعات الإقليمية وحالات الاستقطاب العالمى ستظل فى المستقبل كما استمرت فى الماضى ووصلت إلينا ونحن لا نجيد توصيفها على الوجه الصحيح.
لقد أخطانا حينما انتظرنا أشياء لن تأتى وبشرنا بها الناس على اعتبار ان انتهاء الأزمات التى نعمل على حلها سيجعلنا بلا أزمات فى المستقبل، لكننا لم نكن نعرف ان قطار الأزمات والتحديات كما السحابة التى تمر فتأتى خلفها سحابة اخري، لقد وقفت مع نفسى هنيهة أحاسبها واعاتبها فوجدت أخطاء وخطايا، لكن أشهد انها كانت جميعها بحسن نية او بجهل وضحالة.
<<<
كنت أنظر – على سبيل المثال – إلى أزمة مثل أزمة الدولار فى عام 2025 بنفس النظرة التى نظرت لها عام 1997، لقد هالنى ما قرأته اليوم وكنت قد كتبته بنفسى منذ 28 سنة بعنوان «أزمة دولار ام أزمة ضمير» أما قضية التصدير فاكتشفت أن قطار العمر قد وصل إلى الثلث الأخير من الرحلة ومازالت استخدم نفس العبارات والمفردات التى استخدمتها منذ ثلاثين عاما، كنت أتحدث عن التصدير كجسر وحيد للعبور من أزمة الدولار وان الصناعة والزراعة هما القدمان اللتان يسير بهما التصدير إلى غايته ، كنت أتحدث عن الصناعات التى لنا فيها ميزة نسبية والتى يجب ان نبحث عنها ونركز عليها، وكنت أظن أننا فى مرحلة استثنائية نتيجة التحولات الجارية والأزمات الدولية وبأننا فى عنق زجاجة وأبشر نفسى ومن حولى بأننا على مشارف الخروج من هذا الوضع غير المسبوق.