فى السياسة.. كما فى التاريخ.. هناك لحظات فارقة تُفرز المواقف وتُظهر من الثابت فى المبادئ، ومن يُغير جلده مع تقلب الرياح.
حين نُمعن النظر فيما يجرى الآن فى غزة، فإننا لا نقرأ فقط مشاهد قصف، ولا عدسات صحافة تلتقط صرخات الأمهات تحت الأنقاض، بل نحن بصدد فصل جديد من الصراع العربي-الإسرائيلي.
فى غزة اليوم، تتكرر مشاهد الدمار، ولكن الجديد ليس فى القصف، وإنما فى خطورة ما يُحاك من وراء ستار؛ هناك من يريد للنكبة أن تُعاد، ولكن هذه المرة فى صيغة أكثر قسوة: «تهجير جماعي، يفرغ الأرض من أهلها، ويسلب التاريخ من ذاكرته».
حين بدأ القصف مجددًا، لم تتأخر القاهرة.. ففتح المعبر كان أسرع من البيان السياسي.. التحرك فى المحافل الدولية سبق التساؤلات الإعلامية، والرفض القاطع لأى حديث عن تهجير الفلسطينيين جاء واضحًا لا يحتمل التأويل.
لقد قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى بعبارات لا تقبل اللبس: «لا تهجير إلى سيناء، ولا إلى أى أرض أخري.. ولا لتصفية القضية الفلسطينية.. ولا مساس بالأمن القومى المصري، ونعم السلام وحل الدولتين».
هذا ليس موقفًا طارئًا، بل هو امتداد لمدرسة كاملة من الفكر السياسى المصري، التى كانت ولا تزال، ترى فى فلسطين قضية وجود، لا مجرد خلاف حدود.
هنا يتبادر إلى ذهن البعض سؤال.. وماذا تفعل مصر؟ إنها ببساطة تلعب دور «الضمير»، وهو أصعب أدوار السياسة.. تتحرك لتثبيت التهدئة حين تنهار، وتفتح أبوابها أمام الجرحى حين تُغلقها الدنيا، وتقاوم ضغوطًا دولية وإقليمية لا يقدر عليها إلا من تمرّس فى اختبار التاريخ.
ثم هناك نقطة بالغة الأهمية: أن القاهرة، رغم كل ما تواجهه من تحديات داخلية وخارجية، لم تسقط فى فخ «الحياد السلبي»، بل تمسكت، كما فعلت دومًا، بخيار السلام العادل، على أساس حل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
أن ما يُراد لغزة اليوم ليس فقط محو جغرافي، بل محو للذاكرة والحق، لكن هناك من لا يزال يقاوم بلغة التاريخ، لا بلغة الدمار.
فى هذا المشهد المزدحم بالصخب، تبقى مصر.. شاهدة، فاعلة، ورافضة.. ليس فقط للحرب، ولكن للظلم أيضاًً.