لا يمر يوم دون أن تصدمنا مواقع «السوشيال ميديا» بفتوى غريبة وشاذة لأحد أدعياء الفتوى من مشايخ «التريند» لكى تتناقلها الجماهير وتختلف حولها بين مؤيد ومعارض.. ولا يهم هنا أن تعبر الجماهير المصرية الواعية والحريصة على تعاليم دينها النقى عن غضبها وسخطها على المفتي.. فكل ما يشغله هو التريند وحديث الناس عنه وتداول صورته على الصفحات.
لذلك امتلأت مواقع التواصل الاجتماعى وخاصة «الفيس بوك» خلال الشهور الماضيةبفتاوى عشوائية متسرعة أثارت جدلا وردود أفعال غاضبة لما تحمله من تحريض واضح على الخلافات والمشاجرات الزوجية، وتعمق من الخلافات بين الأزواج والزوجات دون وجود ما يستدعى ذلك سوى ظهور أصحابها على المواقع والصفحات والجروبات، وحديث الناس عنهم حتى ولو كان بما يسيئ إليهم!!.
من بين هذه الفتاوى الغريبة التى رددها بعض المشايخ وتلقفتها صفحات ومواقع إلكترونية فتوى بـ»عدم أحقية الزوج فى طلب كوب شاى من زوجته» وفتوى بـ»عدم أحقية الزوج فى اجبار زوجته على معاشرته» وفتوى بـ»عدم التزام الزوجة بخدمة والدى زوجها» وفتوى بـ «حق الزوجة فى طلب الطلاق للضرر فى حالة ما إذا غضب منها الزوج وذهب للنوم فى منزل أسرته»، وفتوى بـ»عدم أحقية الزوج فى جنيه واحد من راتب زوجته».
بعض هذه الفتاوى قد يكون الحكم الشرعى فيها صحيحاً فى ظروف معينة، وغير صحيح فى ظروف أخري.. فكل حالة لها حكمها فى ظل ظروفها وملابساتها، ولذلك لا يجوز اطلاقها وتعميمها على الناس دون الوقوف على الظروف والملابسات حتى لا تكون وسيلة للتحريض على الشجار الأسرى والدفع بالزوجين إلى أبغض الحلال فى حالة العناد والإصرار على الموقف.
روى لى أحد علماء الفتوى بالأزهر قصة زوجة ذهبت اليهم فى لجنة الفتوى وتصر على الحصول على فتوى باحقيتها فى طلب الطلاق من زوجها الذى يحاول اجبارها على المساهمة بجزء من راتبها فى نفقات البيت والأولاد.. فتعامل معها العالم الفاضل بحكمة وهدأ من روعها وسألها عن ظروف أسرتها المادية وتأكد من عدم قدرة الزوج – وحده- على الوفاء بمتطلبات أسرته فى ظل الأحوال الاقتصادية الصعبة التى تعيشها معظم الأسر، وأخذ يناقشها حتى اقتنعت بأن مساعدتها لزوجها فى نفقات البيت والأولاد من حسن العشرة التى حث عليها الإسلام ووعدت بالمساهمة بربع راتبها بل واتصلت بزوجها أثناء الجلسة مع العالم الأزهرى ووعدته بذلك وأعطته الشيخ يتحدث معه ويحثه على حسن التعامل مع زوجته.. وأبلغه أن الانفاق على الأسرة مسئوليته وليس مسئولية زوجته وأن مساهمتها معه من باب «حسن العشرة» ويجب أن يكافئها على ذلك.
هؤلاء هم العلماء الذين يدرسون ظروف المستفتى وأحواله قبل إطلاق الأحكام العشوائية التى تفرق بين الأزواج وزوجاتهم.
>>>
فى منظور الإسلام تقوم العلاقة الزوجية على التعاون والتكامل بين الزوجين.. فهى شراكة متكاملة بين شخصين جعل الله بينهما من وشائج التعاون والتراحم والعمل المشترك ما يحقق مقصود الزواج الذى أشار إليه الحق سبحانه وتعالى بقوله: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون».. وبالتالى فإن كل فتوى تتسبب فى نزاع وشجار وتحدث فرقة بين الزوجين فهى فتوى باطلة، ولا علاقة لها بشريعة الإسلام، فالفتوى وسيلة إصلاح وتوجيه وتوعية بحكم الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون حكم الله ضد الوفاق والتعاون والتكامل بين الزوجين.
لقد أكد كبار علماء الإسلام عبر العصور أن الفتوى أمانة ومسئولية، وبالتالى تحفظ كثير منهم- رغم علمهم الوافر- فى الفتوى انطلاقاً من أن لها مقومات خاصة ينبغى أن تتوافر فى من يتصدى للافتاء، ومن أقوال الإمام الشافعى رحمة الله: «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب» وهو قول يدفع كل هؤلاء الذين يتسرعون فى الإفتاء إلى مراجعة أنفسهم والكف عن هذا الهوس الذى يسيطر على دعاة شباب غير مؤهلين للفتوى الى مراجعة أنفسهم، بل الأولى أن تراجعهم جهات عملهم فى المؤسسات الدينية التى يعملون فيها حتى لا يتورطوا ويورطوا مؤسساتهم فى فتاوى غير منضبطة من شأنها شغل الناس بأمور هامشية وصرفهم عن التعاون والعمل المشترك لتحقيق استقرار الأسرة.
>>>
لقد أكد العلماء أن المفتى غير الداعية، ولكل منهما مهامه وواجباته، فليس كل مفتى يستطيع أن يوصل معلوماته للناس أو يملك مهارات الداعية، وليس كل داعية لديه القدرة على الفتوي.. فلماذا لا يتفرغ كل منهما لمهامه المنوطة به ويعطى فى ميدانه ما هو مطلوب منه؟ لماذا يتصدر دعاة شباب تابعين للأزهر أو الأوقاف للافتاء فى أمور اجتماعية وقضايا أسرية ويثيرون جدلاً وخلافاً بين الناس؟ ومن أين جاء الداعية الشاب بفتوى أن «الزوجة ليست ملزمة بعمل كوب شاى لزوجها»، ولو صح وأن هناك فتاوى لا تلزم المرأة بخدمة بيتها وزوجها، فهل يدرك هذا الداعية أن التعاون بين الزوجين فى الأعمال المنزلية سنة نبوية كريمة وأن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ألزم ابنته فاطمة بالأعمال المنزلية فى بيت زوجها على بن إبى طالب -رضى الله عنه- وألزم زوجها بالعمل خارج المنزل؟
على مؤسساتنا الإسلامية- وهى تمتلك مراكز تدريب وتأهيل عالمية للدعاة والمفتين- أن تضع قواعد يلتزم بها الجميع حتى لا يحدث هذا الخلط المريب بين «الدعوة» وهى تعنى الارشاد والتوعية والتوجيه الديني، وبين «الفتوي» وهى تعنى استخلاص الأحكام الشرعية الصحيحة المنضبطة بضوابط الشرع ونقلها للناس.