شتان بين ما قالته المستشرقة الألمانية زغريد هونكه عن العرب وإنجازاتهم الحضارية وما نراه اليوم من هشاشة وانقسام وتدهور فى منطقتنا العربية..تقول المفكرة الألمانية:»إن إنجازات علماء العرب من أطباء وكيمائيين ورياضيين وفلكيين كل هذا هطل على أوروبا كالغيث على الأرض الميتة فأحياها قرونًا وخصَّبها إبان ذلك من نواحٍ متعددة. ولقد شق على الغرب دائمًا أن يعترف بالأحقية العربية فى الوضع والتأليف والابتكار».
والسؤال : كيف تحولت أمتنا من منارة زرعت أسس النهضة العالمية فى رحم الكون، إلى ما هى فيه الآن، من ضعف وانفصام بين ما تقول وما تفعل، بين ما تؤمن به من معتقدات وما تفعله من سلوكيات.. لماذا هى دون كل أمم الأرض تعانى بلاء التطرف وتنظيماته والإهمال والفساد والتخلف والأمية والمرض حتى باتت أكثر بقاع الأرض هشاشة وانقساماً وتدهوراً فى الإنتاج وانحداراً فى السلوكيات وانخراطاً فى الخرافة واستسلاماً للشعوذة والتواكل والكسل..؟!
لماذا تخلت عن ريادتها التى كانت ملء السمع والبصر؛ فى العلم والنهضة والقوة الشاملة والغنى والرفاه إلى أن صارت عالة على الأمم، تقتات على إنتاج غيرها، وتشترى السلاح من غيرها، وتستورد التكنولوجيا من غيرها..لماذا تدهورت أخلاقنا وتراجعت أدوارنا الحضارية حتى تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ليس من قلة ولا من فقر فى الموارد بل نحن كثرة لكنها كغثاء السيل كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم ..؟!
تُرى ما آفتنا الحقيقية: أهو التدين الشكلى وغياب الوعى بحركة التاريخ..أم تدهور الأخلاق وفقدان البوصلة نحو أهداف محددة لا يشغلنا عنها شاغل..؟!
لماذا لا تجد أمة كأمتنا يحاربها أعداؤها بأيدى بعض بنيها الذين يجرى توظيفهم لهدم أركان دولنا وهز استقرارها فيما يعرف بحروب الجيلين الرابع والخامس ليدمر بعضنا بعضاً بدعاوى زائفة تنطلى على بعضنا..؟!
لماذا فقدت أمتنا «خيريَّتها» وأفضليتها التى وصفها الله بها فى القرآن بقوله: « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..»»آل عمران:110»
لماذا لم نعد أمة «اقرأ»، وفرطنا فى الاجتهاد واستسلمنا للتعصب وفهمنا الدين فقط على أنه «عبادات» شكلية، ورسبنا فى امتحان المعاملات، رغم أن العبادات ما جعلت إلا لإصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»
لماذا أغفلنا ضرورة الاجتهاد بالصورة المرجوة فى طلب العلم وتحرى الصدق والتثبت من كل قول حتى لا نقع أسرى شائعات مغرضة أريد بها ضرب استقرار المجتمعات وتفكيكها ليسهل ابتلاعها ..لماذا استسلمنا لغواية مواقع التواصل الاجتماعى ومواقع الأخبار وقنوات التحريض بما تشيعه من أخبار مفبركة وشائعات مكذوبة هدفها تشويه إنجازات الدولة المصرية التى تتعرض لموجات شرسة من الإرهاب وحروب الأفكار والشائعات التى لم تجد من يدرأها باليقين والبرهان كما تنتشر بيننا رذائل من عينة الكذب والرياء والغيبة والنميمة وأكل أموال الناس بالباطل وإخلاف الوعد ونقض العهد خلافاً لما يأمرنا به شرعنا القويم من إصلاح للنفس وإقرار بالذنب وإقلاع عن المعاصى والتطهر من الرذائل حتى نرتقى لمدارك الإيمان الحق ويستوى ظاهرنا مع باطننا وأقوالنا مع أفعالنا وألا نقول ما لا نفعل ولا نعد ثم نخلف أو نفترى الكذب فى حديثنا حتى لا نقع تحت طائلة قول الله تعالى « يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون..».
بداية الإصلاح فى رأيى تكون من إصلاح الأخلاق؛ بوصفها أعظم أركان الدين الذى هو بريء من الدواعش الجدد وجماعات العنف والتكفير التى اجتاحت دولنا فخربت العمران وسفكت الدماء وأزهقت الأرواح وشوهت بكل أسف صورة الإسلام الحنيف الذى ادعت الانتماء إليه زوراً وبهتانا وكذباً ..الأمر الذى يدفعنا للتساؤل: من قام بتشويه صورة الإسلام الحق ..أهى تصرفات بعض المنتسبين إليه أم أعداؤه الذين لا يرجون له انتشاراً حتى اختلقوا مصطلحاً ظالماً وهو «الإسلامو فوبيا» فى الغرب الذى ارتكب ولا يزال فظائع فى دولنا التى احتلها قروناً وأمطرها بحروب صليبية قروناً أخرى دون أن يجرؤ أحد على صك مصطلح مقابل وهو «المسيحو فوبيا» أو حتى «اليهودو فوبيا»، ذلك أنه لا يصح أن تنسب إلى الأديان موبقات اقترفها بعض المنتسبين إليها قصدًا أو بغير قصد وعلى أصحاب هذا الدين أو ذاك أن يقدموا لغيرهم الصورة الحقيقية لدينهم.
ما تعانيه اليوم أمتنا من انفصام ظاهر بين جوهر ما يدعونا إليه ديننا وبين سلوكنا وأفعالنا هو تناقض ناتج عن قصور شديد فى فهم البعض لدينه بصرف النظر عن تصرفات الغير نحونا.. وهو ما عبر عنه الرئيس السيسى بصراحة ذات يوم بقوله « إن من يؤثر على الدين وصورته لدى الغير بشكل طيب أو غير طيب هم أهله، وأن كل دين قوى بطبيعته لكن الذى يضعف صورته هم أهله وممارساتهم الفعلية».
الرئيس السيسى لم يكتف بذلك بل ذهب إلى أبعد من هذا حين دعا إلى عدم التورط فى الإساءة للغير فى خطابنا، مشيراً إلى أنه كان حريصاً منذ توليه منصبه على ألا يقول لفظاً خادشاً أو مسيئاً لأحد سواء كان عدواً أو حبيباً حتى فى أحلك اللحظات وأشدها صعوبة، وأن الفهم الصحيح للآية الكريمة «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» لا يقف فقط عن حدود الحفاظ على حياة الإنسان وإنما يتسع معناها ليشمل كل ما يحافظ على حياته وسلامته.
ما أحوجنا لمراجعة أفعالنا وأقوالنا وأن نتذكر جميعاً أننا سوف نقف أمام الله تعالى وسنحاسب على ذلك ..وليسأل كلٌ منا نفسه :هل قدم ما يليق بدينه في معاملاته وسلوكياته..وهل التزم بمكارم الأخلاق وروح الصيام في رمضان وغيرها أم تحولت مجتمعاتنا إلى غابات ينهش القوي فيها الضعيف إشباعاً للغرائز والحاجات المادية..