عمل إنسانى رفيع، لا يصدر إلا عن نفس سوية تنجذب لعمل الخير بفطرتها، نفس لا تعرف الكبر ولا الشقاء ولا التجبر وقد وصف الله عيسى عليه السلام بقوله (ولم يجعلنى جبارا شقيا) وهنا ربما يمر كثيرون على ذلك التعبير القرآنى دون أن يلفت نظرهم اقتران الشقاء بالتجبر، وقد سبقت كلمة الله وصدقت. فما من جبار طغى إلا قصمه الله، وارجعوا إن شئتم لقصة النمرود أو قصة فرعون أو قارون أو حتى نيرون العصر لتروا كيف كانت نهاية المتجبربن لنعلم عظمة جبر الخواطر، رقة القلوب إنسانية السلوك. فلا تحقرن من المعروف شيئا وإن كان إطعام هرة أو سقاية كلب، فقد دخلت امرأة النار فى هرة حبستها، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض، بينما دخل رجل الجنة فى كلب سقاه وكان يلعق الثرى من العطش.. هذه هى مقاييس السماء، يكافئ من يجبر خاطر حيوان أبكم فما بالنا بمن يكرم إنسيا كرمه الله ورفعه فوق جميع المخلوقات.. يقول الله تعالى (ولقد كرمنا بنى آدم).. وإذا كان الله فى عليائه تفضل على الإنسان بالتكريم فكيف يبخل الخلق على بعض منهم بحسن المعاملة أو بجبر الخاطر؟!.
ولست فى حاجة للقول إن من سار بين الناس جابراً للخواطر أدركه الله فى جوف المخاطر هكذا تقول تجارب الحياة التى عشتها بنفسى أو عاشها غيرى فى جوف الخطر، فحين مررت قبل عامين بمحنة مرض حار الأطباء فى تشخيصه أول الأمر كانت رعاية الله حاضرة تحيطنى أينما حللت، وقد لمستها فى أيادٍ امتدت بالعون وتكفلت بالمواساة والدعم وحتى بالدعاء حتى تجاوزت محنة رضيت بها وعبرتها بيقين وثبات ورأيت فيها كيف أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا مهما تحسبه هينا..ما دمت تعمله خالصا لوجه الله ولم تنتظر من أحد مقابلاً ولا شكورا..اطمئن سيعود إليك فى ظروف لا تتوقعها.
وهنا أدركت أسرار زيارة المريض والسؤال عنه وكيف ترفع منسوب المناعة وتحيى موات القلوب وتبعث الروح فى علاقات ميتة أو كادت تموت..هنا أمعنت النظر فى الحديث الشريف الذى رواه أبو هريرة رضى الله عنه ويقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ يَومَ القِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أعُودُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟!، قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِى فُلاَناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنى عِنْدَهُ! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أطْعِمُكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟! قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِى فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي! يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي! قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أسْقِيكَ وَأنْتَ رَبُّ العَالَمينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ! أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي»
أما إذا أردت أمثلة عملية على أن جبر الخاطر يرتد لصاحبه خيرا وفيرا فإنى أسوق إليك مثالا عمليا يضربه د.حسام موافى أشهر أطباء الباطنة فى مصر الذى يروى قصة تلخص فضائل جبر الخواطر.. يقول: «ذات يوم اتصل بى فضيلة الشيخ الشعراوى لكى يحجز للكشف عندي، فرددت عليه قائلا: لا والله يا مولانا أنا اللى حجيلك لحد بيتك.. قام د.موافى بالكشف على الشيخ الشعراوى ثم سأله : ما أفضل عمل أتقرب به إلى الله يا مولانا.. فقال له الإمام: خمن.. فقال د.موافي: الصلاة، الصيام، الحج، العمرة فقال الشيخ: لا.. فأعاد عليه السؤال: ما أفضل عمل أتقرب به إلى الله.. فقال الشعراوي: جبر الخواطر.. فتعجب د.موافى ثم قال: ما دليلك يا مولانا؟!
فردَّ الشيخ قائلاً: إنه لا يوجد شخص ملعون أكثر من الشيخ الذى لا يؤمن بالله ورسوله.. يقول الله عز وجل: أرأيت الذى يكذب بالدين.. شايف اللى بيكذب بالدين بيعمل إيه، فذلك الذى يدع اليتيم، يعنى بيكسر خاطر اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين.. فويل للمصلين.. فجبر الخواطر جاء مرتين قبل الصلاة.. اقتنع د.حسام موافى بكلام الشعراوى وانصرف وعزم على أن يعمل بتلك النصيحة.. وفى يوم من الأيام وبعد أن غادر المستشفى تذكر مكالمة جاره يطلب إليه فيها زيارة حماته ليطمئن على صحتها، فاحتار د.موافى بين أن يذهب إلى بيته أو يعود ويجبر خاطر جاره.. وتذكر كلمات الشيخ الشعراوى وعاد بالفعل ليجبر خاطر جاره وعندما رجع للمستشفى أصابته جلطة أثناء وجوده بالمستشفى وأحاط به الأطباء وحصل على العلاج المناسب خلال دقيقتين.. يضيف د.حسام إن تلك الجلطة لو كانت أصابته فى مكان آخر غير المستشفى لكان مات بعد دقائق لأنه لا يوجد شخص يتحمل جلطة فى الشريان التاجى بالذات لمدة تزيد على 5 دقائق.. وكأن الله قد كافأه لأنه عاد لكى يجبر بخاطر جاره فأنقذه الله من تلك الجلطة بسبب ذلك.
هذه الواقعة الحقيقية تحضرنى دائماً كمثال حى فى أهمية جبر الخواطر وهى تدعونا ببساطة للتمسك دائمًا بجبر الخواطر فى حياتنا، فالحياة بأكملها لا تساوى شيئاً مقابل إدخال فرحة إلى قلوب من حولك حين تقوم بجبر خاطرهم.
فأى خيرٍ أعظم عند الله من جبر خواطر الناس، وقد ورد فى الحديث النبوى الشريف» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تَدْخِلُهُ عَلَى مُؤْمِنٍ: تَكْشِفُ عَنْهُ كَرْبًا، أَوْ تَقْضِى عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِى الْمُسْلِمِ فِى حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَيْنِ فِى مَسْجِدٍ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رِضا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِى حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا لَهُ، ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ «.
وهكذا فمن يسعى لجبر خاطر غيره ينقذه الله من أى سوء أو أذى قد يتعرض له حيث يرد الله للعبد ما قدمه ويزيد عليه ثواباً عظيماً جزاء ما صنع.