حين يعلو صوت الضجيج والحناجر العنترية التى تقذف الناس بالباطل وتشوه الحقائق فوق العقل، يصبح المشهد مقلقاً. ففى عصر تحولت فيه منصات التواصل الاجتماعى إلى منابر للرأى العام، نواجه ظاهرة مثيرة للقلق: صعود أصحاب الآراء الأكثر ضجيجاً وليس بالضرورة الأكثر علماً. فبين عشية وضحاها، يتحول شخص إلى «خبير اقتصادى» لأنه يملك آلاف المتابعين، أو إلى «مستشار سياسى» لأنه يجيد صناعة المحتوى الجذاب. هذه الظاهرة تطرح سؤالاً خطيراً: هل يمكن أن نثق فى معلومات يقدمها أشخاص لا يملكون أدوات التحليل العلمى، ولا الخبرة العملية، لكنهم يجيدون إثارة الجدل؟
لم تعد الشهادات العلمية أو الخبرة الميدانية شرطاً لامتلاك صوت مؤثر. اليوم، يكفى أن يكون لديك: لغة جذابة تلامس مشاعر الجمهور، وقدرة على تبسيط الأمور المعقدة (حتى لو بتحريف الحقائق)، واستغلال الأزمات لصناعة محتوى عاطفى ينتشر بسرعة. المشكلة أن هذه الآراء، رغم عدم دقتها، تتحول إلى حقائق فى أذهان الملايين، خاصة عندما تقدم فى قوالب درامية أو ساخرة.
عندما يتحول النقاش حول القضايا الكبرى (مثل الاقتصاد، الصحة، السياسة) إلى جدل ومناظرات على صفحات السوشيال ميديا تظهر كوارث مثل: تضليل الرأى العام بمعلومات غير دقيقة، وتقليل ثقة الجمهور فى المتخصصين الحقيقيين، الذين قد يبدون «مملين» مقارنة بمن يجيدون الإثارة.
ولكى نحمى أنفسنا من التضليل، لا بد من البحث عن مصادر موثوقة قبل تصديق أى معلومات، ومطالبة المنصات بالشفافية، مثل إضافة علامة «رأى شخصى» أو «غير مدعوم ببيانات» للمحتوى غير المتخصص، ودعم المتخصصين الحقيقيين بمشاركة تحليلاتهم وعدم الانجرار وراء الإثارة.
فى الماضى، كان الخبراء يُختارون بناءً على كفاءتهم، أما اليوم، فأصبح «البطل» هو من يجيد اللعب على وتر المشاعر، بغض النظر عن الحقائق.
لكن التاريخ يذكرنا دائماً: الأمم التى تسمح للصوت الأعلى أن يكون هو الأقل علماً، تدفع ثمناً باهظاً. فهل نتعلم من الدرس قبل فوات الأوان؟