لم يعد يفصل العالم عن موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية، الثلاثاء القادم، سوى أيام تعد على أصابع اليد الواحدة.
وتبدو الانتخابات الحالية، منذ انطلاق حملات المرشحين لها، الأكثر تعقيدا فى التاريخ الأمريكى بشهادة العديد من المحللين الأمريكيين أنفسهم، بل وصفها بعضهم بأنها الأسوأ.
بدأت أحداثها باستقرار كل من الحزبين الديمقراطى والجمهورى على مرشحه فى السباق الانتخابي.. الديمقراطيون استقروا على الرئيس الحالى بايدن.. والجمهوريون اختاروا الرئيس السابق ترامب.
المرشحان كانا متقاربين فى السن الذى يدور حول الثمانين عاما، وكان هذا أول مؤشر على شيخوخة الحزبين الرئيسيين، ومعهما الديمقراطية الأمريكية ونفاذ رصيدهما من القيادات الشابة على مستوى الصف الأول.
وكانت المعركة الانتخابية ـ لو استمرا فيها ـ ستحمل اسم «معركة الفترة الثانية».
فكل منهما كان يحلم بالحصول على حقه الدستورى فى فترة رئاسية ثانية.. ترامب الذى حُرم من هذه الفرصة فى انتخابات 2020 التى خاضها أمام بايدن وخسرها ويريد استعادتها.. وبايدن الذى يرى أنه الأحق بها استكمالاً لمسيرته ومسيرة حزبه.
أى أن الانتخابات كانت ـ لو استمرا فى السباق ـ ستجرى بصورة تقليدية، بين مرشحين سبق للناخبين تجربتهما ودون وجه جديد أو فكر جديد ينعش الساحة السياسية ويجعل للسباق مذاقاً مختلفاً.
من هذه النقطة، بدأت التطورات المثيرة فى الظهور لتغير شكل السباق ومذاقه.
كان أول هذه التطورات، المناظرة الأولى والأخيرة بين بايدن وترامب، والتى بدا أداء بايدن خلالها ضعيفا واهناً وفاقد التركيز بما دفع قيادات حزبه للضغط عليه للانسحاب من المعركة خشية خسارتها، وقد حدث.
وواجه الحزب الديمقراطى تحديا فى اختيار مرشح بديل يستطيع مواجهة ترامب، ونجح فى عبور التحدى وقدم كمالا هاريس نائبة الرئيس بايدن لتكون فرس الرهان.
وأحدث هذا تغيرا نوعيا كبيرا فى شكل وجوهر السباق الانتخابي، الذى كان ترامب يتمنى أن يستمر كما هو لأنه كان واثقا تماما فى قدرته على هزيمة بايدن بسهولة.
الصورة أصبحت كالآتي: امرأة مرشحة أمام ترامب.. عمرها يقل عنه بما يقرب من عشرين عاما.. تنتمى لفئة الملونين الذين يمثلون قاعدة تصويتية كبيرة على المستوى الشعبي.. تاريخها قبل أن تدخل البيت الأبيض كنائبة للرئيس بايدن، وخلال الفترة الرئاسية التى قضتها لا تشوبه شائبة تعيبها.. تبدو تلقائية فى تصرفاتها ولديها قدرة على التواصل السريع مع الجموع بضحكتها الواسعة التى تسبقها.
المشهد الجديد أعاد للرئيس السابق ترامب صورة انتخابات 2016 ، التى واجه فيها نفس الموقف مع اختلافات طفيفة، فقد كان المرشح أمــامه امرأة هى هيلارى كلينتون، ســيدة البيت الأبيــض الأولى فى عهد رئاسة زوجها بيل كلينتـــون التى امتـــدت فترتيــن بمجموع 8 سنوات، ثم وزيرة الخارجية فى عهد الرئيس أوباما.
هيلارى كشخصية ـ بالمقارنة بهاريس كانت أقوي، وكخبرة دولية، كانت أكبر، وكمنافسة انتخابية كانت أشرس، وكانت كل استطلاعات الرأى ترجح فوزها حتى لحظة بدء التصويت، ومع ذلك، نجح ترامب، القادم من قطاع مليارديرات العقارات فى الإطاحة بها والوصول ـ لأول مرة فى حياته، وبلا سابق خبرة ـ إلى المكتب البيضاوى بالبيت الأبيض.
لابد أن هذه الصورة جعلت ترامب يحلم بأنه قادر على هزيمة هاريس أيضا، ليحظى بلقب «قاهر النساء» فى الانتخابات الرئاسية.. لا يهمه أن تكون المنافسة بيضا، أم ملونة.. صاحبة خبرة أو بدون.. باستطلاعات الرأى التى ترجحها، أو بعيدا عنها.
ما يقوى عزيمة ترامب على الاستمرار فى حلمه، أنه ـ رغم تعرضه لمحاولتى اغتيال لم يفصل بينهما سوى تسعة أسابيع، ظل الطرف الوحيد الثابت فى المعادلة الانتخابية.. بايدن هزمه فى انتخابات 2020 وحرمه من الاستمرار فى البيت الأبيض لفترة رئاسة أخري.. وها هو ينجح فى الانتقام منه ويطيح به من السباق «من أول مناظرة» ويحرمه من فترة ثانية كان يحلم بها دون انتخابات أصلا.
ترامب وهاريس، نجح كل منهما فى إحداث التوازن فى حملته الانتخابية وتعزيز صورته باختيار الشخص الذى سيخوض الانتخابات على لائحته كنائب للرئيس.. ترامب اختار نائبا فى أواسط العمر.. هاريس اختارت نائباً أكبر سنا.
الأداء الانتخابى للاثنين مختلف، ويعكس اختلاف شخصيتهما.. رغم أن القضايا الرئيسية فى الانتخابات واحدة تقريبا.
ترامب يتمترس وراء نفس آرائه التى فاز بها فى انتخابات 2016 رغم المتغيرات العديدة التى طرأت على الداخل الأمريكى والساحة العالمية.
بينما تبدو هاريس أكثر انفتاحا ومرونة، تتحدث عن المستقبل وتخاطب المرأة والشباب وتحاول أن تقدم برنامجا انتخابيا متكاملا، ومليئا بالوعود وبالأمل فى تحقيقها، بينما كان رد ترامب على ذلك فى المناظرة الوحيدة التى أجريت بينهما هو:
ولماذا يا سيدتى لم تحققى شيئاً من هذه الوعود وأنت نائبة للرئيس لمدة أربع سنوات؟!
تبادل الاتهامات بين المرشحين الذى نتابعه طوال الشهور الماضية، ليس جديدا على الانتخابات الأمريكية.
كل من المرشحين يحاول جذب الآخر إلى ملعبه.
ترامب، بشخصيــته التصــادمية يســعى طـــوال الوقت لـ «جر شكل» هاريس بتعليقاته الحادة، ومفرداته الساخرة وهو الأسلوب الذى نجح به مع هيلارى فى انتخابات 2016، ووصل إلى أن كلا منهما توعد الآخر بسجنه.. هيلارى توعدته بالسجن فى دعوى تهربه من الضرائب، وهو توعدها بنفس المصير فى دعوى استخدامها للبريد الإليكترونى الرسمى لوزارة الخارجية فى مراسلات شخصية خلال توليها الوزارة.
هاريس تقاوم بشخصيتها التصالحية محاولات ترامب، وتتمسك بعدم الانسياق لأسلوبه.
يبقى أن الداخل الأمريكي، والعالم، الآن مختلف عما كان عليه فى المرحلتين السابقتين.
العالم تحكمه أزمة اقتصادية لا أحد يعرف على وجه اليقين متى ولا كيف تنتهي، كما تسيطر عليه اضطرابات ومتغيرات وتوترات سياسية حادة، باستمرار الحرب الروسية ـ الأوكرانية، واقتراب الشرق الأوسط عن شفا حرب إقليمية طاحنة، وسباق محموم فى المحيط الآسيوى بين أمريكا والصين لتكوين تحالفات عسكرية تبدو وكأنها مقدمة لإعداد المسرح لصدام عالمي.. وحروب تجارية متوقعة وانقسامات محتملة حتى داخل التحالفات القائمة.
كل ذلك ينعكس على الداخل الأمريكى لأنه يتصل بقضايا الحياة والمعيشة.. الحرب والسلام.. البترول والغاز والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعى وعشرات القضايا التى تنتهى بالمواطن الذى يريد أن يعرف كيف يعيش فى ظروف أفضل.. حتى انه لأول مرة تصبح الحرب الإسرائيلية الأمريكية فى غزة ولبنان وضد إيران قضية انتخابية رئيسية على جدول تصويت الناخبين.
لا أحدد يستطيع أن يجزم بمن سيكسب هذا السباق.. فالأخطر هو.. ماذا سيحدث فى «اليوم التالي» للانتخابات أياً كان الفائز.. ترامب أم هاريس؟
لقد نجحت محاولات الرئيس بايدن خلال الأسابيع الأخيرة فى انقاذ إجراء الانتخابات من مصير مجهول بنزع ـ ولو مؤقت ـ لفتيل انفجار الموقف فى الشرق الأوسط، والتلويح بتهدئة، لكن مازال اليوم التالى يشكل خطراً فى ظل استباق ترامب بإثارة المخاوف من تزوير الانتخابات والالحاح على هذه القضية حتى يبدو التزوير مكانة حقيقية محتومة وليس مجرد احتمال، ثم التهديد بموجات من العنف حتى خلال عمليات التصويت.