أمام البيوت كان يوجد براح كبير.. كانت القلوب تتسع بحجم هذا البراح وتصفو بحجم نسيم العصارى الذى يتدفق من كل مكان ويبدو أنه كلما ازدحمت البيوت اضطربت المشاعر وتعثرت الأشواق.. المحبة يبدو أنها كالطيور تريد أن ترفرف وتغرد ولا يفزعها الناس ولا تزعجها الضوضاء.. كان من العيب أن يتناول أحد الافطار داخل المنزل بل لابد من الافطار أمام البيت فربما مر عابر أو لاذ غريب بالمكان فيتناول الطعام.
أمام الطيبة التى أنبتت أشجاراً أمام المنازل وأطلقت عصافير تدرك جيدا أن الأمان هنا.. أو قل أمام البيت تجد طبلية كبيرة يوضع عليها مالذ وطاب من السخاء والطعام يتقدم تلك الأطعمة الكنافة التى تجهز فى البيت كما يروق لمن يأكلون والتى تجلس بثقة كأنها صاحبة البيت التى لا تغادر.. وبجوارها مشروب العرقسوس بينما يحتل الكباب الفلاحى الذى تصنعه النساء بمهارة يحتل واجهة الطعام بجوار اللحم وغالبا لا يخلو هذا اليوم من الفتة وهى لها طبيعة خاصة حيث يقومون بتقطيع العيش إلى قطع صغيرة ويضعونها فى الزيت الذى تم فيه تحمير اللحم ثم هناك من يتركها هكذا وهناك من يضع عليها القليل من المرق لتصبح لينه وسهلة التناول.
الأطفال كانت ألعابهم الفوانيس البسيطة التى يوقدون بها شمعة ويسيرون فى الشوارع بفرح أو يلعبون ألعابا بسيطة تشبه بساطة قلوبهم.
اليوم الأول يشبه تماما اللقاء الاول بين المحبين ويكون مشحونا باللهفة والشوق والمشاعر المضطربة والبحث عما يجعل اللقاء رائعا.
الاهتمام باليوم الاول يكون شديدا جدا ويكون الجميع فى حالة استنفار واستعداد ثم تبدأ الأمور تهدأ شيئا فشيئا كلما مضت أيام من شهر رمضان.
إنه يوم الموسم وهو اليوم الأول فى شهر رمضان وفى هذا اليوم لا توجد عزومات بل الكل سيفطر مع أولاده لأنهم يسمونه يوم الموسم.
العزومات
بعد ذلك العزومات للأقارب وبعض الأصدقاء الحميمين لرب المنزل.
المسحراتى كان المنبه الحى لإيقاظ الناس للسحور وكان عادة رجلاً كبيراً بملابس متواضعة يطوف على البيوت وهو يحمل طبلة كبيرة يدق عليها بعصا غليظة إصحا يانايم رمضان كريم.. وكان كلما مر ببيت لأحد الأغنياء ناداه باسمه إصحا يا أستاذ إبراهيم السحور ياصايم.. يا حاج محمود السحور.. وفى الليلة الأخيرة من رمضان يبدأ فى جمع مالذ وطاب من الطعام من البيوت التى كان يوقظها فى رمضان ولا مانع من جمع المال أيضا.
وتقريبا كل يوم يسافر رب المنزل إلى البندر لشراء متطلبات رمضان واحتياجات المنزل من مأكولات ومن مشروبات بينما كان العامة يكتفون بيوم السوق لشراء احتياجاتهم كل أسبوع مرة واحدة.
فى القرية مثلما يفعل الحمام وهو عائد للأبراج فوق البيوت كان يصطف الدجاج والبط قبل المغرب فى صفوف منتظمة إيمانا منه بالرضا والعطاء وهو عائد للمنزل وكان أهل القرى يعتمدون على البط والدجاج الذى يربونه فى المنازل فى طعامهم وقليلا ما كانوا يشترون اللحوم من البندر.
القرية الطيبة
القرية كانت كانت كأى امرأة طيبة تحب وتعطى دون أن تنتظر المقابل وكانت كأى رجل يخلص ولا يهتم سوى بمن تعيش معه ومثل أى وردة لا تنتظر أن يزرعها أحد وتعلن خروجها وترسل العبير فى الطرقات.
النساء وحجرة الأسرار
حجرة الفرن كانت غرفة الأسرار بين النساء.. وكانت تشبه العيادة النفسية فيها تحلو الفضفضة والحكايات.. والغمز واللمز والضحكات المخبوءة بين النساء أثناء إعداد الطعام للإفطار.
فى حجرة الفرن تتشابك الأصوات ويكثر الركض لإعداد مالذ وطاب واليوم الاول لرمضان عادة ما يبدأ بعد الظهر وتعد حجرة الفرن هى أشهر حجرة فى الريف قديما بها يوجد فرن الخبيز وأغراض كثيرة خاصة بالطعام كبلاص المش وحصائر الجبن القريش.
غالبا كان يتم بها تناول الافطار فى الأيام العادية لكنها فى رمضان تتحول لحجرة عمليات خاصة بينما تجد نفس الحجرة لها مذاق آخر فى الشتاء حيث تكون هى مأوى الجميع للهرب من البرد وتناول الطعام الخارج من الفرن ساخنا وخاصة الخبز والمشويات كالبطاطس والباذنجان والبطاطا.
ليلة الشك
كما يلتف الطلاب فى هذا الزمن حول الراديو لسماع أرقام جلوس النجاح فى الشهادات ودقات قلوبهم تكاد تعلو على صوت المذيع.
يجتمع أهل لبيت ليلة الشك لمعرفة أول أيام رمضان.. وربما تطول السهرة فى انتظار الإعلان عن أول أيام الصوم وينقسم عادة الحضور إلى قسمين منهم من يرجو الصيام غدا ومنهم من يود بعد غد وقد يحدث أن يتأخر الإعلان عن أول الشهر فينام أهل البيت وفى الصباح يسألون الجيران إذا ما كان اليوم صياما أم لا فإن كان صياما نووا الصيام وأكملوا اليوم.
والأغنيات تصنع الوجدان العربى ببراعة ومن أكبر القوى التأثيرية على سلوك وأحاسيس الناس.. ولو لم تتم إذاعة أغانى رمضان المحفوظة فربما فقد الناس جزءا هاما من إحساسهم برمضان.. صحيح إننا لم نكن نعرف معنى «وحوى ياوحوى الياحة وكمان وحوي» لكننا كنا نحفظها جيدا وكذلك رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه وبقاله زمان.. أهلاً رمضان.. تلك الأغانى التى مازالت تعيش بيننا كأنها جزءا من الشهر لا ينفصل عنه مهما طال الزمن.
ورمضان له ريح مختلف ورائحة مختلفة تكاد تشم رائحة الأيام والأوقات فصباحه مختلف وليله مختلف وتكاد تشعر بدقات قلبك مختلفة وربما ترى المحبة تجوب الشوارع وتصافح العابرين حيث تعلو الروح والناس فى نهار رمضان أكثر وداعة ومن الصعب أن تجد مشاجرة فى الشوارع فكل العصبية تنتهى بقول اللهم إنى صائم وينتهى الأمر عند هذا الحد.. هى جملة تنهى الخلاف وتنهى المشاجرات وربما تجمع الشمل بهدوء شديد وكأنهم يتشبهون بنسمات الفجر أو نسمات العصارى يقوم مجموعة من الناس الطيبين قبل قدوم رمضان بالسعى للصلح بين المتخاصمين ويقولون كيف تصوم وأنت على خصومة ويحاولون تقريب وجهات النظر ويكون قدوم رمضان دافعا للناس لقبول الصلح ونبذ الخصومات والتقرب لله.
المساجد تشع النور
المساجد تصير أنوارها مختلفة وتشعر كأنك تدخلها للمرة الأولى وكأنها قطعة من جنة الله.. ويبسط الناس أيديهم بالعطاء والمحبة والسلام.
تكثرالصلاة وقراءة القرآن وعمل الصدقات للفقراء وكما يتبادل المحبون الورود يهتم الجميع بتبادل الأطعمة خاصة بين الجيران حيث يرسل الجيران أطباقا من طعامهم إلى جيرانهم ويقوم الجيران برد الأطباق ممتلئة بأى شيء من عندهم ومن العيب أن ترجع الأطباق فارغة فلابد من وضع طعام أو حلوى بها ثم إرسالها لأصحابها مع كل عام وأنتم بخير ورمضان كريم.
الصيام فى الحقول
ولا يمنع الصيام الناس من العمل فى الحقول.. الحقول لا تعرف الراحة والسنابل لا تعترف بالأعذار والنساء منذ الصباح أيضا يذهبن للحقول ويعملن كل واحدة بقدر إتقانها لعمل ما ولكن الغناء يقل ويستبدل الناس ذلك براديو صغير يعمل على إذاعة القرآن الكريم.. وعند الظهيرة النساء يعدن لتجهيز الإفطار.
ورمضان له جدول خاص به وهذا الجدول توارثه الجميع فمثلا بمجرد دخول منتصف رمضان تبدأ النسوة فى عمل كعك وبسكويت العيد ويتم ذلك بالعمل معا.. كان يجتمع النسوة فى بيت إحداهن لعمل الكعك وبعد الانتهاء من ذلك ينتقل الجميع لبيت آخر معاً لعمل الكعك وهكذا حتى ينتهى الجميع من عمل الكعك والبسكويت وهن يعملن معاً ويساعدن بعضهن.. ولا تنسى من ينتهى العمل عندها أن تجهز لكل واحدة ساعدتها قدرا من الكعك والبسكويت.. ويكون عادة طريقة العمل أن تجلس واحدة تجيد الخبيز أمام الفرن بينما تتقوم واحدة أو أكثر بوضع المقدير وعجن العجين وتقوم أخريات بتقطيع الكعك وزخرفته بواسطة أدوات بسيطة خاصة لنقش الكعك بينما توجد ماكينة بسيطة لإعداد البسكوت ووضعه على الصوانى ثم تأخذه من تجلس أمام الفرن للخبيز.
ليلة القدر
ليلة القدر هى ليلة مبهمة وتفاصيلها مبهمة ويحكى عنها الناس كأنها الأحلام ولكل قصصه المختلفة وربما المختلقة.
على رصيف كوبرى القرية يجتمع كل أهالى القرية بعد صلاة العشاء كل ليلة فى العشرة أيام الأخيرة فى انتظار ظهور ليلة القدر بينما تسهر النساء على سطوح البيوت بينما ينظر الجميع للسماء فى ترقب حتى حلول الفجر.
ويقولون إن السماء فى ليلة القدر تنفتح ويخرج منها النور وعند ذلك على كل واحد أن يجهز الدعاء الذى سيدعو به لأن الدعاء مستجاب عند ظهور هذا النور رغم أن كل ما سمعناه حكايات قديمة ولم نعلم أن أحداً رآها فى هذه الأيام ولكن الناس لا تمل واليقين لا ينتهى فمعاينة ليلة القدر والدعاء قد يحل كل مشاكل الساهرين حتى الصباح.. وبينهم المدين والمريض والعاشق والراغب فى الثراء والمهموم والحالم .. المهم أن كل واحد يردد فى نفسه طوال الليل ما حفظه من الدعاء وجهزه بعناية مخافة أن ينساه.. وكما انتظرت أمى الحمام الذى هرب من الأبراج لسنوات ولم يعد لم تظهر ليلة القدر.
فى الأيام الأخيرة يقوم الرجال بشراء الترمس والسودانى والتمر وبعض الحلوى لكى توضع على صينية كبيرة يوم العيد.. حيث يخرج الناس من الصلاة فيزورون بيوت الشارع ومن يعرفونهم بيتا بيتا وربما يلتقط أحدهم حبة حلوى أو سودانى من الصينية الموضوعة فى وسط الحجرة بينما يسلم الناس ويهنئون بالعيد وينصرفون لبيت آخر.
كان لابد أن يطوف جميع أهل القرية على كل البيوت للسلام والتهنئة بالعيد ويجلسون لدقائق قليلة ثم ينصرفون.
الفوانيس والشمع
كان الأطفال يحملون فوانيس بسيطة فى ليل رمضان ويطوفون بها فى الشوارع وكانت الشوارع هادئة فى الليل نظرا لالتفاف الناس حول الفوازير ومسلسلات رمضان.. كانت بعض المسلسلات تجذب الناس لدرجة إنك لا تجد أحداً فى الشارع ولا تسمع أصواتا فى المنازل.
الآن مع الزحام تغيرت الحياة كثيرا واختفت البساطة وازدحمت الشوارع بحركات الشراء والبيع.. وربما وجدت أشياء جميلة وجديدة نظرا لوجود الطرق الجديدة وجدنا بعض الشباب يخرجون على طريق السيارات وهم يحملون الطعام والعصائر من أجل المسافرين وقت المغرب وربما يظلون قرابة الساعة على الطريق فيشيرون للسيارات ويناولونهم الطعام والشراب فى محبة وود.
وقبل دخول الشهر بقليل يبدأ الناس فى إحضار الأوراق الملونة وربطها بين بلكونات الشوارع لتصنع منظرا جماليا فى الشوارع .. وأيضا يقومون بشراء فانوس كبير ووضعه فى كل منطقة ويتكاتف الناس معا من أجل إخراج نسخة ملونة فى الشوارع فى هذا الشهر الفضيل.
بعض الناس يقومون بشراء ملابس العيد قبطل رمضان وذلك لأن الأسعار ترتقع بشدة قبل العيد فيبادر الناس بشراء الملابس والاحذية قبل رمضان وشراء فوانيس للاطفال مبكرا وذلك رغم أن الأطفال منذ سنوات أنصب اهتمامهم على المفرقعات التى يلهوون بها بعد الافطار فى الشوارع والتى تحدث أصواتا عالية ورغم ذلك يتقبل الناس الأمر لأنهم فى شهر رمضان ويجب أن يفرح الجميع.
وكما لكل شيء محبوب خصوصية فشهر رمضان له خصوصية روحية ودينية لدى جميع المسلمين إلا أنه له مميزات خاصة وخصوصا فى مصر وفى المناطق الشعبية وربما جد الآن أن الناس صارت قبل حلول شهر رمضان بأسبوعين تقريبا يستعدون لهذا الشهر بعد أن إدخروا مبلغا طوال العام من أجل استقبال هذا الشهر الكريم.. فتجد كل بيت يدخر جزءا من دخله قبل رمضان بشهور استعدادا لمتطلبات هذا الشهر نظرا لارتفاع الأسعار وكثرة المعروض بما يوائم المدنية.
الفارق
رمضان الذى يجوب الشوارع الآن تفزعه الألعاب النارية للأطفال ويؤرقه الزحام والضوضاء التى لا تسكن طوال الليل وعندما يدخل البيت يغضب لأن الجيران لا يعرف بعضهم بعضا وكل واحد أغلق بابه عليه فى صمت.. ولا تعجبه لغة الحوار فى الشوارع ولا يرى الموائد الكثيرة التى كانت منتشرة فى الماضي.. ورغم زركشة الشوارع بالأوراق الملونة فهو يتجول داخل القلوب ليرى ماالذى تخبئه القلوب وما الذى تحمله فى هذه الأيام المجيدة.
رمضان حزين لأن أحدا لم يعد يجلس أمام البيت ليأخذ الغرباء للإفطار وضاقت الشوارع واتسعت الفجوات بين الناس.
لكن رغم كل هذا تبقى مساحة ليست بسيطة من المحبة وتبقى رائحة ما لأيام الشهر ودعوات لاتنتهي.. وأن كان البراح إنشغل بالبيوت والمحلات.. وارتفعت الابراج ومنذ زمن لا نرى القمر ولا يمشى العشاق فى طريق مقمر.
واختفت الأشجار وأبراج الحمام ولم يعد أبى يجلس كالبراح فى البراح أمام البيت.