ما زلت ابحث وأدقق فيما آلت إليه مفاهيم الصوفية الحقة ووصلت إلى حالة من العبث الفج بسلوكيات البعض الذين انتسبوا زورا وبهتانا إلى ذلك ذاك العالم الروحانى العظيم ، قرأت كتاب «حصاد الهشيم» للأديب الكبير إبراهيم عبد القادر المازنى وفى الباب الثامن من الكتاب وقفت عينى على الكلمات التالية– نريد «بالتصوف» ما يطلقون عليه – فى بلاد الغرب كلمة «مستيسزم»، وهى كلمة من أشق الأمور أن يعالج المرء تعريفها على وجه الدقة، إذ كانت تدل على حالة من حالات الفكر، أو الإحساس، تبدو مقرونة بمحاولة العقل الإنسانى أن يتغلغل إلى حقائق الأشياء وأن يستجلى صفاتها الربانية، أو الاستمتاع بنعمة الوصول إلى الذات العلية والاتصال بها والتسرب فيها، ومن هنا ظهر التصوف فى الفلسفة والأدب، وفى الدين كذلك.
وهذه النزعة عريقة فى العقل الإنساني، وليست بالشاذة ولا النادرة. ولكن الناس ليسوا سواء فى قوة الذهن وقدرته على توضيح ما يعرض له وجلائه، ولا فى صلابة الإرادة التى تعين على مواصلة الالتفات. والمرء إذا لم يرزق القوة والإرادة استراح إلى الأحلام، واستسهل أن يطلق لخياله العنان، إذ كان هذا أقل كلفة وأيسر مئونة، وكان لا يتقاضى المرء من الجهد ما تتقاضاه الملاحة والوزن.. على أن المرء لا يكاد يكون له خيار فى ذلك، فإذا عدم الإرادة التى تؤتيه القدرة على الالتفات استهدف للأخطاء، وغاص فى لجج من الخرافات، واعتل رأيه فى الصلات الكائنة بين الظواهر المجتلاة، وفسد حكمه على الوجود وصفات الأشياء وعلاقتها، ولم يستطع وعيه أن يأخذ إلا صورة مشوهة غامضة للعالم الخارجي، وضعف تمييزه، واختلط الحابل بالنابل فى خواطر ذهنه – إذا صح هذا التعبير – وماج بالمختلف والمؤتلف منها، وبالواضح والمستبهم، وعالت الخواطر – بحكم اتصالها – بلا كابح، وراحت تظهر أو تختفى من تلقاء نفسها ومن غير أن يكون للإرادة عمل ما فى تقويته! أو نفيها، واستدعى احتفاظُ الوعى بجمهرتها فى وقت معًا أن تتكون من خليطها فكرة مضطربة غير صادقة فى تصوير العلاقات بين الظواهر. وقد ضرب نورداو فى هذا الصدد مثلاً لذهن الرجل الضعيف قال: «كل من حاول فى ليلة مظلمة أن يستجلى ظاهرة بعيدة يستطيع أن يحضر لنفسه الصورة التى يرسمها عالم الفكر لذهن الرجل الضعيف. انظر ثم! كتلة مظلمة! أى شيء هي؟ شجرة؟ كوم من الدريس؟ لص؟ حيوان مفترس؟ أينبغى أن أفر؟ أم يجب أن أحمل عليه؟ ويعود العجز عن استبانة الشيء – الذى يحرزه ولا يراه – مدعاة لإشاعة الخوف والقلق فى نفسه. وهذه هى الحالة التى يكون عليها عقل الرجل الضعيف تلقاء ما يأخذه وعيه، فيروح يعتقد أنه يرى مائة شيء فى وقت معًا، ويصل ما بين الصور التى يخيل له أنه يتبينها وبين الخاطر الذى كان مثارها.. على أنه يحس مع ذلك أن هذه العلاقة لا مفهومة ولا معللة، ولكنه مع هذا يؤلف من أشتات ما فى ذهنه، فكرة تناقض كل تجربة ولكنه مضطر إلى أن ينزلها من الصواب منزلة غيرها من آرائه وخواطره إذ كانت كلها قد نشأت على هذا النحو. وهذه الحالة الذهنية التى يحاول المرء معها أن يري، ويحسب أنه يرى وهو لا يري، ويضطر إلى أن يؤلف فكرة من خواطر تضلله وتسخر من وعيه، وتخيل له أنه يدرك علاقات مستترة بين الظواهر الواضحة والظلال الغامضة الملتاثة – هذه هى الحالة العقلية التى تسمى التصوف، سنواصل غداً.