فى السياسة، كما فى الجغرافيا، هناك حقائق لا يمكن تجاوزها وإن أُريد لها أن تُنسى، وعلى رأسها أن الاحتلال الإسرائيلى لم يكن يومًا مشروع دولة، بل مشروع اغتصاب مستمر، وجرائم متتالية، وادعاءات متكررة لتغطية عورة التاريخ المزيف، وفى القلب من هذا المشهد يقف بنيامين نتنياهو، رجلٌ وظّف الخوف، والكذب، والتاريخ المعلّب ليصوغ صورة «الدولة المُحاصِرة» بينما يُسقط على غزة حممًا لا تعرف رحمة ولا تقف عند حدود القانون الدولى أو ضمير البشرية.. فنتنياهو ليس مجرد زعيم سياسى، بل هو صاحب مشروع أيديولوجى يرتكز على عقيدة «الأمن بالمحرقة»، يستعمل الخوف من الآخر كمحرك لتوسيع النفوذ لا لحمايته، فمنذ توليه رئاسة الحكومة لأول مرة عام 1996، كرّس الرجل رؤيته للعالم القائمة على «الحق الدينى لليهود» فى أرض فلسطين، واعتبر أن كل مقاومة – حتى وإن كانت سلمية – خطر وجودى يجب قمعه بالحديد والنار.
ومن جريمة اغتيال الأطفال فى غزة إلى حصارها، ومن تدمير المستشفيات إلى قصف ممرات الإغاثة، تراكمت جرائم حربٍ لا تخطئها العين ولا تنكرها العدالة، لكن إسرائيل كانت ولا تزال تملك سلاحًا أكثر فتكًا من طائراتها، وهو سلاح الأكاذيب الممنهجة، حيث تبدأ القصة من لحظة مختارة بعناية، كمن يُقصّ صورة من مشهد دون سياقها، فتُروِّج تل أبيب بأن «حماس» أطلقت صاروخًا، فترد هى بـ»الدفاع عن النفس»، ويغيب عن المشهد تاريخ الاحتلال، وعدوانه، وسنوات الحصار، وآلاف الشهداء الذين سقطوا قبل تلك اللحظة المختارة.
الإعلام الإسرائيلى والغربى يشتركان فى تقديم الضحية كجلاد والجلاد كضحية، وقد تعلّم نتنياهو درسًا قديمًا من جوبلز، وزير دعاية هتلر: «اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، فلا بد أن يصدقك الناس». ولذلك، تُعاد صياغة كل مجزرة على أنها «خطأ غير مقصود»، وكل عقوبة جماعية على أنها «عملية دقيقة».
فى ظل هذا الظرف الدقيق وزحام الدماء والصراعات، تقف مصر لا بوصفها طرفًا، بل ضميرًا حقيقيًا للقضية، فمنذ نكبة 1948، لم تنسحب القاهرة من مسرح الفعل، سواء فى ميادين الحرب أو طاولات التفاوض، فمصر ليست فقط دولة جوار، بل دولة مركز، عمود خيمة الأمن القومى العربى، وصمام أمان القضية الفلسطينية.. وحين اشتد العدوان على غزة، كانت القاهرة حاضرة، لا بالشعارات، بل بالمعابر، وبمبادرات وقف إطلاق النار، وبالتنسيق مع كل الأطراف من دون أن تنزلق إلى التورط أو تفقد ثقلها كوسيط موثوق، فى كل مرة يُراهن البعض على تجاوز الدور المصرى، تعود الوقائع لتؤكد أن لا حل دون مصر، ولا استقرار دون موافقتها.. تظل مصر الرقم الصحيح فى معادلة ملغومة، لا تقفز فى الفراغ، ولا تسير خلف الموجات، بل تدير الملفات بميزان المصالح والقيم، وتُدرك أن القضية الفلسطينية ليست مجرد شأن خارجى، بل أحد أعمدة أمنها القومى.