تحول ملف إعادة إعمار قطاع غزة فى الوقت الراهن، إلى أقوى أسلحة الدفاع ضد «آلة التدمير» التى كشفت عن نواياها الخبيثة وهى التخلص من الشعب الفلسطيني.. قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا، وتأكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الإعمار الآن ليس مجرد عملية هندسية لإعادة بناء ما دُمّر، بل هى مهمة إنسانية واقتصادية وسياسية معقدة تتطلب جهودًا دولية ضخمة واستعدادًا إقليميًا فاعلًا.
كلما زاد الحديث عن التهجير كلما استوجب ذلك سرعة البدء فى إعمار غزة لقطع الطريق على أى محاولات لإجبار أبناء القطاع للرحيل عنه تحت مزاعمأن القطاع غير قابل للحياة ، ومصر كانت كعادتها فى المقدمة فى الدعوة للإعمار ، ومع أول تنفيذ لهدنة وقف اطلاق النار أعلن وزير الخارجية استعداد القاهرة لاستضافة مـؤتمر دول الاعمار ، وطالبت مصر بتضافر جهود المجتمع الدولى لذلك وهذا ليس جديد على مصر .. فمنذ عقود أول من يسارع فى الاعمار ، لكن الأمر يحتاج هذه المرة دعم ومشاركة دولية.
لا شك أن غزة عانت من موجات متكررة من الصراعات التى خلفت دمارًا واسع النطاق، ولم يكن النزوح الجماعى الذى شهده القطاع سوى انعكاسٍ مأساوى لحجم الدمار الذى طال المنازل والبنية التحتية، ووفقًا لتقديرات مركز المعلومات والإحصاء الفلسطيني، فإن أكثر من 80 ٪ من البنية التحتية فى القطاع تعرض للضرر، وهو ما يجعل عملية إزالة الأنقاض وحدها تحديًا يستغرق سنوات، ويجعل إعادة الإعمار واحدة من أكبر العمليات الهندسية والإنسانية فى العصر الحديث، حيث تقدّر تكلفة إعادة إعمار غزة بمبالغ تتراوح بين 18 إلى 25 مليار دولار، وفقًا لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائى فى يناير الماضي، مع احتمالات ارتفاع التكلفة إلى أكثر من 50 مليار دولار إذا شملت إعادة تأهيل الاقتصاد المحلى وبناء المصانع وتحقيق الاستدامة فى التنمية، وتشير التقديرات إلى أن العملية قد تستغرق ما بين 10 إلى 15 عامًا، اعتمادًا على سرعة توفير التمويل ومدى انفتاح المعابر لإدخال مواد البناء والمستلزمات الأساسية، وهو ما يستدعى تنسيقًا دوليًا واسع النطاق لضمان تنفيذ المشاريع بسلاسة ووفق جدول زمنى واقعي.
واذا كانت مصر كالعادة جاهزة لقيادة مهمة الإعمار فلابد من دعم دول كثير لها فى ذلك ، ولأن من حق الشعب الفلسطينى الذى دمرت أرضه أن يعود اليها ويجد المكان الملائم.
الحضور المصرى
وهنا نتوقف عند الدور المصرى فى دعم الفلسطينيين ومساندة غرس أقدامهم فى بلادهم، ويتأكد أنه لم يكن وليد اللحظة، فقد لعبت مصر تاريخيًا دورًا بارزًا فى احتواء الأزمات الإنسانية فى غزة، سواء عبر تقديم المساعدات المباشرة أو تسهيل عبور الإمدادات الإنسانية، وهو ما ظهر بوضوح فى عمليات الإغاثة الفورية التى أعقبت كل موجة صراع، وفى كل مناسبة تؤكد القيادة المصرية، وعلى رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن التهجير القسرى للفلسطينيين من غزة مرفوض تمامًا، مما يعكس موقفًا ثابتًا تجاه دعم الفلسطينيين فى أرضهم وإعادة بناء مجتمعاتهم، ولم تقتصر الجهود المصرية على الدعم السياسي، بل امتدت إلى المشاركة العملية، حيث شاركت مصر مباشرة فى جهود إعادة الإعمار بعد كل هجوم غاشم من إسرائيل، كما قامت بإرسال فرق هندسية ومعدات ثقيلة للمساعدة فى إزالة الركام وفتح الطرق، وهو ما يعكس التزامًا عمليًا بالمشاركة فى هذه العملية.
قطاعات رئيسية
أن سرعة البدء فى الاعمار أمر لم يعد رفاهية بل ضرورة لانقاذ غزة من مخطط التهجير وهذا ما دعا اليه الرئيس السيسى فى كافة اتصالاته الأخيرة ، بأن الاعمار أمر مهم، و مصر تمتلك الخبرات والشركات المتخصصة فى الاعمار ، لكن الأمر يتطلب اعتمادات ضخمة لا يمكن أن تتوافر الا اذا تضافرت الجهود الدولية وتعاونت الدول العظيمة بالمؤسسات الدولية .
وتتوزع عملية إعادة الإعمار على عدة قطاعات رئيسية، تبدأ بإعادة بناء المساكن والمنشآت العامة، حيث يحتاج القطاع إلى بناء آلاف الوحدات السكنية، بالإضافة إلى إعادة تأهيل المبانى المتضررة، وهو ما يرفع التكلفة إلى 10 مليارات دولار إضافية على الأقل، وفق تقرير صادر عن الأمم المتحدة فى يناير الماضي، وفى هذا الإطار، تمتلك مصر واحدة من أقوى قطاعات البناء فى المنطقة، حيث تضم أكثر من 2000 شركة متخصصة فى التشييد والمقاولات، مثل شركة المقاولون العرب، أوراسكوم، وبتروجت، وهى شركات تمتلك الخبرة الكافية لتنفيذ مشاريع عملاقة فى فترات زمنية قياسية، ما يؤهلها لتكون شريكًا أساسيًا فى إعادة إعمار غزة.
أما قطاع البنية التحتية، فهو من القطاعات الأكثر تضررًا، حيث تضررت شبكة الطرق بشكل كبير، مما يتطلب إصلاح ما لا يقل عن 500 كيلومتر من الطرق الداخلية وإعادة بناء الجسور، كما تحتاج شبكة الكهرباء إلى إعادة تأهيل شبه كاملة، حيث تعرضت المحطات والمحولات للقصف، مما أدى إلى انقطاع التيار عن أغلب المناطق، وفى هذا الصدد، تمتلك مصر العديد من الشركات الكبرى المتخصصة فى البنية التحتية، مثل السويدى إليكتريك، المقاولون العرب، وشركات القطاع العام المتخصصة فى إنشاء محطات الكهرباء، مما يتيح لها دورًا محوريًا فى إعادة تأهيل البنية التحتية فى غزة، خاصة فى ظل القرب الجغرافى وسهولة نقل المعدات عبر معبر رفح.
البنية الصحية
وبين القطاعات، يمثل القطاع الصحى تحديًا آخر، حيث تشير تقارير الأونروا إلى أن أكثر من 75٪ من المستشفيات والمراكز الطبية قد تضررت، مما يستدعى إعادة بناء ما لا يقل عن 10 مستشفيات رئيسية و50 مركزًا صحيًا، مع ضرورة تجهيزها بأحدث المعدات الطبية، ما يرفع التكلفة إلى ما بين 2 إلى 5 مليارات دولار، وتمتلك مصر خبرة واسعة فى بناء المستشفيات وتجهيزها، من خلال شركات مثل المصرية للأعمال الهندسية والمقاولات، والعديد من شركات القطاع الخاص العاملة فى توريد الأجهزة الطبية والمستلزمات الصحية.
أما قطاع التعليم، فقد تعرضت أكثر من 200 مدرسة للدمار الكلى أو الجزئي، مما يعنى الحاجة إلى بناء 100 مدرسة جديدة على الأقل وتجهيز مئات الفصول الدراسية، وهو ما يرفع التكلفة إلى مليار دولار على الأقل، ولدى مصر خبرة واسعة فى بناء المدارس وتطوير المناهج، مما يتيح لشركات المقاولات المصرية فرصة ضخمة فى تنفيذ مشاريع إعادة إعمار المدارس فى غزة.
الزراعة والغذاء
وفيما يخص قطاع الزراعة والأمن الغذائي، فقد تضرر أكثر من 50٪ من الأراضى الزراعية، مما تسبب فى نقص حاد فى الغذاء، وهو ما يستدعى إصلاح الحقول والبيوت البلاستيكية وشبكات الري، مما يجعل التكلفة تصل إلى مليارى دولار على الأقل، وفق تقديرات صندوق التنمية العربى فى ديسمبر الماضي، وتمتلك مصر شركات متخصصة فى الزراعة واستصلاح الأراضي، مثل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، وشركات خاصة متخصصة فى الإنتاج الزراعى يمكنها توفير الميكنة الزراعية والتكنولوجيا الحديثة لدعم المزارعين فى غزة.
القطاع الخاص
وللمشاركة الفعالة فى إعادة إعمار غزة، يجب على القطاع الخاص المصرى اتخاذ خطوات حاسمة تشمل التنسيق مع الجهات الدولية والمانحين لضمان وجود عقود تمويل واضحة، وتأهيل العمالة المصرية للعمل فى غزة وفقًا للمعايير الدولية، والتعاون مع الشركات الفلسطينية لإنشاء شراكات طويلة الأمد تعزز التنمية المستدامة، والاستثمار فى تقنيات البناء السريع لتسريع عملية الإعمار، ومن المتوقع أن تستلزم عملية إعادة الإعمار توافر آلاف الأيدى العاملة المصرية المتخصصة كل فى مجاله، خاصة فى قطاعات المقاولات، الهندسة، النقل، والزراعة، حيث يُتوقع أن تستوعب غزة ما لا يقل عن 50 ألف عامل مصرى خلال السنوات القادمة.
ورغم التقديرات الضخمة للتكلفة، فإن التمويل الدولى متاح من مصادر عدة، أبرزها البنك الدولي، الأمم المتحدة، الصناديق العربية مثل صندوق التنمية الكويتى وصندوق أبوظبى للتنمية، الاتحاد الأوروبي، وتبرعات الدول والشعوب العربية والإسلامية، إلا أن التحدى الأكبر هو ضمان تدفق هذه الأموال دون قيود سياسية تعرقل تنفيذ المشاريع، وهو ما يتطلب جهودًا دبلوماسية مكثفة لضمان انسيابية عملية إعادة الإعمار دون عوائق.
إعادة إعمار غزة ضرورة إنسانية، وضمان لمصير ومستقبل شعب عربى للبقاء فى بلده حتى لا تتكرر مأساة وعد بلفور، وإعادة الإعمار أيضا مهمة اقتصادية للدول المجاورة، وخاصة مصر، التى تمتلك الموارد البشرية والخبرة الفنية والشركات القادرة على تنفيذ المشاريع الكبري، ما يتيح لها دورًا محوريًا فى هذه العملية، وفى نفس الوقت يحقق مكاسب اقتصادية للقطاع الخاص المصرى ويعزز الدور الإقليمى فى دعم القضية الفلسطينية.