مضى شهر واحد على فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية فى الانتخابات التى أجريت فى اليوم الخامس من نوفمبر الماضي، وبفارق كبير فى التصويت الرسمى والشعبى على منافسته المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس.
وقد قدم ترامب نفسه للناخبين الأمريكيين على أنه الرجل القادر على إصلاح ما أفسده الديمقراطيون خلال فترة حكم سلفه الرئيس بايدن وأنه الرئيس القادر على قيادة أمريكا لتعود عظيمة مرة أخرى وسينهى الحروب والنزاعات المسلحة فور تنصيبه رسميا فى العشرين من يناير القادم.
لكن ما فعله ترامب خلال الشهر الذى انقضى على فوزه لا يتسق مع الطريق الصحيح المفترض للوصول إلى هذه الأهداف أو تحقيق هذه الشعارات.
لقد أشهر ترامب سلاحه فى وجه الجميع، وبدأ فى إطلاق الرصاصات فى مختلف الاتجاهات وإرسال رسائل التهديد والوعيد لمن يهمهم الأمر، حلفاء كانوا أم من الأعداء.
هدد كل دولة تسعى للتخلى عن الدولار فى تعاملاتها التجارية مع الخارج بفرض رسوم مائة بالمائة على أى سلعة لها تدخل أمريكا وهو يعنى بذلك تحديدا دول مجموعة «بريكس» التى بدأت رسميا التحرك فى اتجاه الاتفاق على أن يتم التعامل التجارى بينها بعملاتها الوطنية.
رفع الجمارك على واردات حليفيه فى القارة.. كندا شمالا والمكسيك جنوبا إلى خمسة وعشرين بالمائة.
هدد المحكمة الجنائية الدولية بإجراءات عقابية لم تتعرض لمثلها منذ نشأتها إذا استمرت فى التمسك بقرارها اعتقال رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو ووزير دفاعه السابق جالانت.
توعد بأنه إذا لم تفرج حركة «حماس» عن جميع الرهائن المحتجزين لديها فى غزة قبل العشرين من يناير القادم – موعد تنصيبه رئيسا فى البيت الأبيض – فسوف يشعل الشرق الأوسط كله ناراً!!
الرئيس المنتخب ترامب يثبت بهذه البداية أنه لم يتغير عما كان عليه عند فوزه الأول برئاسة أمريكا فى انتخابات 2016.
وأنه لم يدرك أن العالم تغير وأن عام 2025 اختلف كثيرا عن عام 2017.
لقد فاز فى انتخابات 2016 بنفس شعار: سنعيد أمريكا عظيمة مرة أخري.
لكنه ظن أن إعادتها عظيمة تتحقق لو طرد مهاجرى المكسيك وأقام سورا على الحدود معها لمنع تدفقهم لأمريكا مرة أخري.
وأنها ستعود عظيمة مرة أخرى لو أجبر حلفاء أمريكا الأوربيون على تحمل نفقات الدفاع عن أنفسهم وعدم الاعتماد على أمريكا.
وأن أمريكا ستعود عظيمة مرة أخرى بإعلان الحرب التجارية على الصين أملا فى وقف صعودها المتنامى اقتصاديا وعسكريا وسياسيا فى منطقتها والعالم.
وأن أمريكا ستعود عظيمة مجددا لو اتخذ مواقف عدائية من المسلميين بمنع مواطنى سبع دول إسلامية من دخول أمريكا، ومن العالمين العربى والإسلامى لو اعترف لإسرائيل بشرعية احتلالها للقدس وإعلانها عاصمة أبدية لها.
وأن أمريكا ستعود عظيمة مجددا لو اتخذ موقفا مضادا للمرأة فى بلاده ومن مؤسسات الدولة وأذرعة الحكم بالاصطدام بالمخابرات المركزية وبمكتب التحقيقات الفيدرالي.. إلى آخره.
وأن أمريكا ستعود عظيمة مجدداً كلما أفرط فى توقيع العقوبات بمختلف أشكالها على كل من لا يتفق معها أو يدخل فى عباءتها.. من سوريا العربية إلى إيران الفارسية إلى كوريا الشمالية.. وغيرها.
لا أحد ينكر أن ترامب حقق فى تلك الفترة الأولى من رئاسته نجاحات فى الداخل والخارج.. لكنها قياسا إلى إخفاقاته لم ترجح كفة أمريكا ولا أعادتها عظيمة مرة أخري.
لأن لعظمة الدول معايير أخرى غير مجرد الهيمنة بالقوة والترهيب على دول وشعوب العالم الأخري.
والدليل على أن ترامب لم ينجح فى إعادة أمريكا عظيمة خلال تلك الفترة ولا حقق للأمريكيين ما حلموا به فى عهده أنه عندما رشح نفسه فى انتخابات 2020 للحصول على حقه فى فترة رئاسة أخرى أدار الناخبون ظهورهم له وأسقطوه لصالح المنافس الديمقراطى بايدن ليكون من بين القلائل الذين تعرضوا لذلك من الرؤساء فى التاريخ الأمريكي.
ولم يجد ترامب ما يبرر به هذا السقوط سوى الطعن فى نزاهة الانتخابات والإصرار على أنه الفائز وأن نتيجتها تعرضت للتزوير وهو اتهام لم ينجح فى إثبات صحته بأدلة مادية تقنع العدالة.
ولن تعود أمريكا عظيمة مرة أخرى لو استمر ترامب فى تكرار نفس بدايات فترته الرئاسية الأولى وليس له «ملحق» بل سيكون خروجه من التاريخ غير مسبوق.
وعالم اليوم متغير كما ذكرت
وإذا كانت حرب ترامب التجارية على الصين وحدها فى فترته الأولى لم تنجح فى وقف صمودها فكيف به يتوقع أن تنجح حربه مع مجموعة «بريكس» التى أسستها خمس دول من صاحبات أقوى عشرين اقتصادا فى العالم وتتهافت على الانضمام إليها عشرات الدول بعد أن فتحت باب التوسع فى عضويتها وكانت مصر من بين من ضمتهم المجموعة إليها؟!
وكيف سينجح فى الإطاحة بالمحكمة الجنائية الدولية أو خنقها بالعقوبات لصالح «مجرمى حرب» متهمين بالإبادة الجماعية للفلسطينيين فى غزة والضفة بأدلة موثقة وشهود عيان من مختلف منظمات العالم ومؤسساته الحكومية والمدنية.
وكيف يتصور أنه قادر على إشعال الشرق الأوسط نارا فى سبيل تحرير بضع عشرات من الرهائن الأحياء وقد قضى الجيش الإسرائيلى فى مقابلهم حتى الآن على حياة خمسة وأربعين ألف شهيد فلسطينى وأصاب ما يربو على المائة ألف معظمهم من النساء والأطفال فضلا عن تشريد وتجويع الملايين الذين مازالوا على قيد الحياة وبمساعدة مباشرة وغير مباشرة من أمريكا!
هل يتصور أنه قادر على أن ينفذ تهديداته هنا وهناك دون أى رد فعل من الأطراف المضارة أو ضد إرادة الشعوب؟! وأن أى مكاسب سيحققها لن يكون لها ثمن من عظمة أمريكا التى ينشدها؟!
أو أنه قادر بالتلويح المسبق بالعصا على إرهاب الشعوب ودفعها إلى تقديم التنازلات المطلوبة؟!
لو ظن ذلك فلن يعيد لأمريكا عظمتها أبدا.. بل سيزيدها تراجعا وانحدارا.