البعض لا يعترف بضرورة التجديد ليبقى كل شيء كما كان يعهد، فليس فى الإمكان أفضل مما كان، توجسا وارتيابا من كل حديث وجديد أو مشتق منهما، فهو يفضل أن يبقى فكره وخطابه ولغته وطريقته وعلمه مترهلاً مهترئا على أن تناله يد التجديد، أو تطاله بواعث التحديث وأسبابه . وذلك بلا شك مظهر جلى من مظاهر الضعف والخور والهزيمة النفسية. «الخطاب» كلمة عربية فصيحة مستخدمة، هو المحاورة والمحادثة بين طرفين، ونسبته للدين يقصد فيها الخطاب الذى يعتمد على مرجعية دينية فى مخاطبته وأحكامه وبياناته، والمقصود بالخطاب الدينى ما يطرحه العلماء والدعاة والمنتمون إلى المؤسسات الدينية، سواء كان ذلك من خلال الخطب أو المحاضرات أو التأليف أو البرامج الإعلامية الأخري، وقد يدخل فى ذلك المناهج الدراسية فى المدارس والجامعات، بل يمكن أن يوسع مفهوم الخطاب الدينى ليشمل النشاط الدعوى بشكل عام الفقهى منه والعلمى والدعوى والتربوي. صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، والخطاب الدينى جزء من هذا الدين وفى ظل توسع الأمة واتساع رقعتها والانفتاح العالمى فإن هذا الواقع يفرض أن هذا العمل التجديدى ليس شأن فرد واحد، بل مجموعات تتكامل فيما بينها. يشهد العالم تطورات هائلة فى مجال التقنية والمعلومات، ولابد من خطاب دينى واع ومعاصر ومنضبط يساهم فى التنمية بمفهومها الواسع الشامل ويواكب كافة المتغيرات. والتجديد يعنى ترتيب ا لسلّم الأوليات وتنظيم للأهم والمقاصد الكبرى للعلم والدعوة والإصلاح وتسهيل تطبيق ذلك وتوجيهه على أرض الواقع، وإبراز اً لجانب القيم الأخلاقية التى يحتاج إليها المجتمع، لقد بات التجديد فى جميع مجالات الحياة أمرًا ضروريًا ومطلبًا رئيسًا يا؛ لمواكبة التغيرات المتزايدة، والتطورات العلمية المذهلة، والخطى المتسارع الذى يتميز به عالم اليوم، وبالتجديد يحفظ الإنسان آدميته وكرامته، وعلوّه على سائر المخلوقات على الأرض ولا شك أن أهم المجالات التى ينبغى ألا تكون بمعزِلٍ عن التجديد، هو الخطاب الديني، والذى يُشير إلى العمل بالثوابت والأصول التى تتسق مع المقاصد الشرعية، مع الأخذ بمبدأ تجديد الأحكام فى الفروع والمتغيرات بما يتناغم مع العصر ومستجداته، وبما لا يتنافى مع تلك المقاصد؛ ليستهدف تأليف القلوب، ويستوعب الأفهام، ويقضى على الأوهام، ويوحد الصف، ويزيد من الهمة نحو النهضة والتقدم، ويرسخ حب الأوطان . وتكمن أهمية الخطاب الدينى فى دوره الهام المرتبط بتطور المجتمع وتعديل سلوكه وتمسكه بقيمه، ويسهم فى استقرار الحياة العامة، بما يدعو إليه من تعضيد الهوية الوطنية، كما يوظف الخطاب الدينى فى الحياة السياسية والتنموية بكل صورها، لتتحقق الاستدامة المنشودة فى شقيها البشرى والمادى . أن الدين صالح لكل زمان ومكان والتجديد وفق المقاصد الشريعة لا ينغلق بابه ما دامت الحياة، ويستهدف تجديد الخطاب الدينى إشاعة السلم والسلام وتحقيق الأمن والأمان، ومن ثم نبذ كل صور التعصب، والتشدد، مع ضرورة تشجيع التفكير وفق ضوابط المقاصد؛ فلا وصاية على إعمال العقل والتفكر والتدبر؛ ومن محاور التجديد الاهتمام بالمرأة كونها دعامة المجتمع وفق ما وهبها الله من صفات، وتكمن ثمرة تجديد الخطاب الدينى كذلك فى وأد الفتن التى يبتدعها البعض الإفساد وخرق النسيج الوطني؛ كى تطفو على الساحة قضايا شائكة تحدث صراعات لا نهاية لها تمس الأمن القومى المصرى فى المقام الأول، وتعمق الشقاق بين أصحاب البيت الواحد، وعليه بات الخطاب موجهًا بقوة نحو الحوار البناء الذى يقبل المشاركة فى نهضة البلاد وحماية أركانها؛ فلا مجال للمزايدة فوق مصالح الوطن العليا، فوحدة الصف الوطنى لا يعلوها وحدة، ويتسق ذلك مع صحيح الإيمان وتطبيقاته العملية، ويتناغم مع القيم السامية الإنسانية والمجتمعية، وفى عبارة صريحة نعتز بكل الطوائف التى تشكل النسيج الوطني، ومنها أقباط مصر الحبيبة شركاء الوطن وأحد أهم أعمدته الرئيسية والتى تبرز وطنيتهم أوقات الأزمات.
وعلينا أن نستثمر التقنيات الحديثة فى نشر الخطاب الدينى الوسطي؛ إذ تمثل أدواتها ومنابرها قوة ضاربة لتنمية الوعى الصحيح، وتحقيق نجاحات يصعب حصرها لتحدث الأثر الفاعل لدى الفرد والجماعة من خلال استحداث تطبيقات ومنصات الكترونية توفر محتوى تعليمياً وثقافيا حول مفاهيم الفكر الوسطى المعتدل وهنا لابد من الإشارة إلى أن برنامج الحكومة الجديدة حسنا فعل عندما ألقى الضوء على تجديد الخطاب الديني، مشيرا إلى أن المؤسسات الدينية فى مصر تمتلك دورًا ثقافيًا كبيرًا؛ نظرًا لعراقتها وتاريخها الطويل، وقدرتها على بث القيم الإيجابية وروح التسامح ونبذ روح الكراهية والتمييز، مؤكد اً أن تجديد الخطاب الدينى يضمن ذلك ويحقق الوحدة والتماسك المرجو بين فئات الشعب المختلفة حيث أكد البرنامج على أهمية تعزيز التعاون بين وزارة الأوقاف والأزهر الشريف والمؤسسات الدينية الأخرى لنشر الخطاب الدينى المعتدل. مع استمرار جهود الأزهر الشريف والكنائس المصرية فى العمل معًا تحت مظلة مبادرة «بيت العائلة المصرية» لتأكيد قيم المواطنة، والتسامح، والحوار، ومكافحة التحريض على العنف والتمييز، وتدريب الوعاظ والقساوسة على الخطاب الدينى الوسطى . مع تفعيل دور وسائل الإعلام لتقديم سلسلة من البرامج التفاعلية والتى تستضيف علماء الدين لمناقشة أبرز القضايا المعاصرة، بما يُسهم فى تصحيح المفاهيم. وفى هذا الصدد لا يمكن إهمال البرامج الدراسية وأهمية تضمينها مواد لتعزيز الفهم الصحيح للدين ومعالجة المفاهيم المغلوطة لدى النشء والشباب وتنظيم قيم الولاء والانتماء لديهم. وختاما فإنه لابد من تبنى إستراتيجية متكاملة لتجديد الخطاب الدينى على أن تقوم تلك الإستراتيجية على التجديد المؤسسى الذى تتكامل فيه دور كافة المؤسسات الدينية )الأزهر الشريف – دار الإفتاء – وزارة الأوقاف( بالتعاون مع جميع مؤسسات الدولة وصولاً لتحقيق المستهدف من تحقيق الإستقرار المجتمعي.
حفظ الله مصر.. حما شعبها العظيم وقائدها الحكيم