إنه «فصل الخطاب» فى حتمية اليقظة والإدراك للأمم والشعوب، فمن خلال سير السابقين وتجارب الآخرين نستلهم العبرة ونأخذ بالعظة ، فكل ما يدور حولنا ما أراه إلا دروسا تستحق التأمل، ورسائل ربانية تحتاج شكراً، مرة أخرى كل ما يجرى أمام أعيننا يحتاج منا وقفات.. وكما يقول القائل أنا لست غبيا حتى أتعلم من أخطائى عليّ أن أتعلم من أخطاء الآخرين ، إدراك الناس أنهم فى مأزق فهذا الإدراك يمثل أولى خطوات الخروج من المأزق- أى مأزق- ، لكن السؤال المهم هنا هل تدرك الأمة المأزومة أنها مأزومة ووصلت إلى مرحلة المأزق؟ هل يرى الإنسان المحاصر أنه محاصر؟ ربما يكون الشخص المأزوم غارقاً فى التفاصيل ولا يكاد يرى أبعد من تحت أقدامه، فكل منا ينظر فقط إلى وضعه وحاله وإمكاناته وطموحاته وأهدافه ووعوده وتحدياته ويهمل فى النظر إلى الآخرين وإمكاناتهم وطموحاتهم وتحدياتهم، من هنا لا يرى كلانا الآخر إلا فى مراحل النهاية أو المواجهة والنزاع والصراع، ففى البداية يخوض الشخص المواجهة ويدير النزاع وهو لا يرى إلا نفسه، أما فى ساحة الصراع فقطعا سيرى عدوه أو منافسه وهنا سيخفت صوت غروره قليلا ويبدأ فى مراجعة قراراته وتعديل أولوياته وأهدافه وفقا لما رأه فى ساحة النزال، ولو كان قد وقف على حقيقة الآخر لما حدث الصراع من الأساس.
وهنا أتذكر قول الحكيم الشاعر قس ابن ساعدة الإيادى أحد شعراء وحكماء ووجهاء الجاهلية حيث قال فى ثنايا خطبة عصماء «تبا لأرباب الغفلة» حيث قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت.. مطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمع وأشتات، لَيْلٌ دَاج، وَنَهَارٌ سَاْج، وَسَماءٌ ذَاتُ أبْرَاجٍ، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ومهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تَمور، وبحار لا تغور، وَنُجُومٌ تَزْهَر، وَبِحَارٌ تَزْخَر.. إِنَّ فِى السَّمَاءِ لَخَبَراً، وإِنَّ فِى الأرضِ لَعِبَراً، مَا بَاْلُ النَّاسِ يَذْهبُونَ وَلاَ يَرْجِعُون؟!، أرَضُوا بالمقام فَأَقَامُوا، أمْ تُرِكُوا هناك فَنَامُوا؟، تباً لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية» وهذا هو بيت القصيد وعقدة مقالنا هذا، يواصل الإيادى صرخته فى الناس بقوله: «أيْنَ الآبَاءُ والأجْدَادُ؟، وأيْنَ الفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ؟، أَلَمْ يَكُوْنُوا أكْثَرَ مِنْكُم مَالاً وأطولَ آجالاً؟، طَحَنَهُم الدهْرُ بِكَلْكَلِهِ، ومزَّقَهم بتطاوُلِه.. وأقسم بالله قَسَماً لا إثم فيه إن لله ديناً هو أرضَى لكم وأفضل من دينكم الذى أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكراً».
وعلى ذكر قس ابن ساعدة أتذكر أفضل ما قاله من حكم حيث قال: «إذا خاصمتَ فاعدل، وإذا قلتَ فاصدق، ولا تستودعنَّ سرك أحداً، فإنك إن فعلتَ لم تزل وجِلاً ومَن عيَّرك شيئا ففيه مثله، ومَن ظلمك وجد مَن يظلمه، وإذا نهيتَ عن الشيء فابدأ بنفسك، ولا تشاور مشغولاً وإن كان حازماً، ولا جائعاً وإن كان فهِماً، ولا مذعوراً وإن كان ناصحا».. انتهى.