فى مشهد يعيد إلى الأذهان فصولاً متكررة من التوترالجيوسياسى فى الشرق الأوسط تتجه العلاقات بين طهران وواشنطن نحو مزيد من التصعيد وسط تصريحات نارية واستعراض للقوة وتحركات عسكرية تعكس استعدادات ميدانية على الجانبين، فبينما تواصل إيران الكشف عن ما تسميه بـ»المدن الصاروخية» ردًا على لغة التهديد التى يستخدمها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ضد طهران تعزز الولايات المتحدة من وجودها العسكرى فى المنطقة عبر نشر طائرات شبحية وقاذفات بعيدة المدى فى قواعد قريبة من مسرح التهديد.
وتتزامن هذه التطورات مع تصعيد متبادل فى الخطاب السياسى والعسكرى إذ حذرت طهران من أن أى اعتداء يستهدف أراضيها سيقابل برد شامل لا يميز بين المصالح الأمريكية أو البريطانية فى المنطقة، مؤكدة أنها لن تتردد فى استهداف أى قاعدة تنطلق منها أعمال عدائية، كما قال وزير الخارجية الإيرانى عباس عرقجى إنه لا معنى للمفاوضات لمن يهدد بالقوة فى إشارة إلى تهديدات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وأن المحادثات المقبلة بين طهران وواشنطن فرصة بقدر ما هى اختبار وأن الكرة فى ملعب الولايات المتحدة، فى حين أكد على شمخانى مستشار المرشد الإيرانى على خامنئى أن إيران تبحث عن اتفاق واقعى وعادل مع الولايات المتحدة فى مباحثات اليوم بشأن الملف النووى الإيرانى فى سلطنة عُمان، فى المقابل تؤكد الإدارة الأمريكية أن هناك ردودًا حاسمة وخطرا كبيرا على إيران حال تعرض مصالح الولايات المتحدة لأى تهديد أو عدم توصل المفاوضات المقرر إجراؤها اليوم فى سلطنة عُمان إلى حل بشأن البرنامج النووى الإيرانى حيث هدد ترامب بذلك خلال لقائه رئيس الوراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى البيت الأبيض، وشدد الرئيس الأمريكى على أن طهران لايمكن لها أن تمتلك سلاحًا نوويًا، حيث أبلغ مسؤولون إيرانيون المرشد الأعلى على خامنئى أن رفض التفاوض مع أمريكا أو فشله سيؤدى حتمًا إلى تعرض موقعى «نطنز وفوردو» النوويين الرئسيين لضربات عسكرية وفق صحفية نيويورك تايمز الأمريكية.
الدكتورة سمية عسلة الباحثة فى الشئون الإيرانية تقول إنــه حتــى الآن التــصعيد بين الولايــات المتحــده وإيــران لا يعد سوى كونه تصعيدًا إعلاميًا والنقطة الفارقة ليتحول هذا التصعيد إلى تصعيد عسكرى هو عدم اتخاذ إيران إجراءات قوية وفورية ترضى الجانب الأمريكى والدول التى حضرت مؤتمر «وارسو» السابق، مضيفة أنه لا تهاون فى ردود الفعل الإيرانية فى حال فكرت إسرائيل وأمريكا توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، كما أن إيران ترى أنها قدمت العديد من التنازلات وضحت بالأذرع التابعة لها فى المنطقه سواء كان فى العراق أولبنان والآن فى اليمن من أجل أن ترسل ببادرة حُسن نوايا للرئيس ترامب وأنها جاهزه للتفاوض والنقاش فى حدود الحفاظ على المصالح الإيرانية والأمن القومى الإيرانى معًا.
وأشارت «عسلة » إلى أن هناك موقفًا أمريكيًا يريد الضغط على إيران من خلال ما يحدث الآن فى اليمن من ضغط على ميليشيا الحوثى التابعة لإيران وتحجيم دور باقى المليشيات الإيرانية فى المنطقة، حيث مارست أمريكا من قبل ضغوطًا اقتصادية على إيران بهدف جرها إلى طاولة المفاوضات فى النهاية، لافتة إلى أن هذا الدور الامريكى يسعى للوصول إلى اتفاق نووى جديد مع إيران فى حين أن إسرائيل لا تؤمن بفكرة الوصول إلى اتفاق نووى مع طهران وترى أن الحل هو توجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووى الإيرانى لإعادته إلى المربع الأول وأن هذه ليست الأولى التى تستهدف فيها إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية، ولكن الأهم بالنسبة لإسرائيل هو استهداف المعامل النووية الإيرانية لأنه الأكثر قوة وعنفًا وحدة ولما له من خسائرفادحة للجانب الإيرانى ولأن نتنياهو يرى أن البرنامج أصبح يهدد مستقبل إسرائيل واستمرارها وليس الأمر مجرد طموح نووى إيرانى لا يجد من يلجمه.
وكشفت الباحثة فى الشئون الإيرانية أن نتنياهو حاول الضغط على الرئيس الأمريكى خلال لقائهما من أجل توجيه ضربة عسكرية للبرنامجين «النووى والصاروخي» لإيران، وأنه لا محالة من ضرب البرنامج النووى الإيرانى لما يشكله من تهديد على وجود واستمرار الكيان الإسرائيلي، موضحة أن البرنامج النووى هو أهم ما تمتلكه إيران بالإضافة إلى البرنامج الصاروخى وأن إيران تحملت العديد من العقوبات الأمريكية والضغوطات من أجل تحقيق نجاح فى هذاالملف والاقتراب من صنع القنبلة النووية.
بينما يشير اللواء طيار دكتور هشام الحلبى مستشار الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والإستراتيجية إلى أن التصعيد العسكرى ضعيف فى ظل هذا التوقيت وأن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يريد الإظهار واستخدامه للغة التهديد المتمثلة فى التصريحات والحشد العسكرى الأمريكى الموجود فى المنطقة واستهداف الحوثيين ليس إلا مرحلة للضغط على إيران لمنع البرنامج النووى ورضوخ إيران إلى اتفاق يخدم المصالح الأمريكية، مؤكدًا أنه لن يتم ضرب أهداف نووية بواسطة أمريكا نظرًا لتأثير ذلك وما له من تداعيات سلبية على المنطقة بأكملها وتهديد مياه الخليج وما ينجم عن ذلك من انبعاث مزيج من القوة الحرارية والموجات الارتجاجية والإشعاع الذى يستمر لسنوات.
أوضح «الحلبي» أنه إذا تم استهداف مواقع عسكرية سيكون هناك رد إيرانى قوى وعنيف خاصة بعد إعلان الحرس الثورى الإيرانى عن ما يسميه بـ «مدن الصواريخ» تحت الأرض ردًا على لغة التهديد المتواصلة من قبل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حيث تضم هذه المدن منظومات إستراتيجية تشمل صواريخ باليستية وطائرات مسيرةمتطورة، كما أن إيران لا تترد فى توجيه ضربة عسكرية تستهدف أى قاعدة تنطلق منها أعمال عدائية ضد طهران، وقال إن أمريكا ستواصل ضرب الحوثيين أحد الأذرع الإيرانية فى اليمن لمحاولة استهدافهم السفن الأمريكية وتوجيه ضربات لإسرائيل، مبينًا أن الضربات الأمريكية لن تتمكن من التخلص من الحوثيين نظرًا لنقاط القوة التى تمتكلها مليشيا الحوثى فى اليمن من طبيعة الأرض الجبلية التى يسهل الإخفاء والتمويه بها ووجود القدرة على تواجد مخزون من الصواريخ التى تستطيع إسقاط الطائرات بدون طيار وهو ما يثير انتباه أمريكا بالإضافة إلى حالة الهلع الرئيسية التى تتعرض لها إسرائيل والشعب الإسرائيلى حينما يتم توجيه ضربات لها وهو ما تستغله إيران فى توجيه ضربات أمريكية.
من جانبه قال الدكتور توفيق حميد الخبير بالشئون الأمريكية إن إظهار الرغبة لدى إيران وأمريكا فى المفاوضات التى أعلن عنها ترامب وتبدأ اليوم فى سلطنة عمان هى رسالة واضحة بأنهما لا يريدان الحرب وتفاقم الأزمة وأن يتم الخروج بحفظ ماء الوجه حتى لا تنهزم الإدارة السياسية للدولتين أمام شعبيهما عن طريق الحلول السياسية والمباحثات، مشيرًا إلى أن إدراك إيران لاحتمالات الضربة الأمريكية أمر جاد وقد يحدث فى أى وقت بتزامن مع الضربات المستمرة على الحوثيين فى اليمن وتهديدات ترامب بعدم التوصل إلى حل بشأن البرنامج النووى ومن قبل حزب الله والمليشيات الإيرانية فى المنطقة خاصة وأن إدارة ترامب تختلف تمامًا عن سابقتها التى كانت تطيل أمد الصراع.
أضاف «حميد» أن الصراع داخل أمريكا يسير فى اتجاهين، الأول يؤيد عدم الحرب وهو الأفضل لترامب لأن ذلك سيتسبب فى حدوث مشاكل للمنطقة برمتها ومنها النفط ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية وإشعال العمليات الإرهابية الانتقامية ما قد يخرج عن السيطرة، لافتًا إلى أن هذا الاتجاه يسعى للتفاوض عن طريق وسيط وعمل اتفاق يضمن يقينًا عدم وصول إيران للسلاح النووي، بينما الاتجاه الثانى يريد توجيه ضربات قاسية لإيران لإنهاء القدرة العسكرية والتنافسية بشأن البرنامج النووى الذى تسعى إيران لتنفيذه الكامل، متصورًا أن إيران إذا استطاعت التراجع بما يعطى الضمانات اللازمة لأمريكا ودول المنطقة فقد يروق ذلك لترامب لتقليل معدل الصراعات التى تنشأ حوله من خلال اتفاق جديد بين إيران وأمريكا.
بينما يرى الدكتور إكرام بدر الدين أستاذ العلوم السياسية أنه فى ظل تصاعد التوترات فى المنطقة وتكثيف التواجدالعسكرى الأمريكى «الجوى والبحري» توجد تخوفات إيرانية من التعرض لضربات أمريكية أو إسرائيلية وخصوصًا بعد الضربات التى وجهتها إسرائيل إلى الأذرع الإيرانية فى المنطقة إضافة إلى ما تقوم به الولايات المتحدة من توجيه ضربات مستمرة ضد الحوثيين في اليمن ما جعلها تتوجه بالتحذير إلى دول إقليمية من استخدام إقليمها لمساعدة العدوان الأمريكى فى حالة حدوثه.
أضاف أستاذ العلوم السياسية أن إيران أبقت الباب مفتوحًا لمفاوضات دبلوماسية، وعلى الأرجح أن الولايات المتحدة قد لا تلجأ إلى حرب مفتوحة وشاملة ضد إيران لعدم تعرض القواعد الأمريكية فى المنطقة لضربات إيرانية.
وفى ضوء هذا التصعيد المتشابك بين طهران وواشنطن تتأرجح المنطقة فوق خيط رفيع يفصل بين الحرب والسلام والرسائل المشفرة على الأرض وسبل التفاهم، حيث تظل المنطقة حبلى بالتوترات فى انتظار ما ستسفر عنه التحركات الدبلوماسية والمفاوضات، وبينما يراهن البعض على أن منطق الردع سيمنع انفجارًا وشيكًا يرى آخرون أن تراكم الضغوط وسوء التقدير قد يدفعان إلى حافة مواجهةغير محسوبة، ويبقى المشهد رهين قرارات تصاغ خلف الأبواب المغلقة… فإما انفراجة تعيد التوازن أو شرارة تشعل صراعًا قد يتجاوز كل الحدود.