فى خضم الاضطرابات التى تعصف بالاقتصاد العالمى يبرز مشهد غير معتاد.. ضعف الدولار الأمريكى الذى طالما اعتبر ملاذاً فى أوقات الأزمات يفتح الباب أمام اليورو ليظهر كلاعب أقوى على الساحة المالية الدولية، السؤال الملح هنا: هل هى فرصة مؤقتة أم بداية تحول عميق فى النظام النقدى العالمي؟
للمرة الأولى منذ سنوات بات المسئولون الأوروبيون يرون بصيص أمل استراتيجى فى القلق العالمى المتزايد حيال الأصول الأمريكية، التعديلات الجذرية التى أدخلها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على قواعد التجارة العالمية وهجماته المتكررة على المؤسسات الأمريكية المستقلة مثل الاحتياطى الفيدرالى أدت إلى تآكل جزء من الثقة التقليدية بالدولار كأصل آمن ومع أن الأسواق هدأت قليلاً عقب محاولات إدارة ترامب طمأنة المستثمرين فإن الضرر المعنوى قد وقع.
خلال اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولى والبنك الدولى فى واشنطن أبدى العديد من المسئولين الأوروبيين تفاؤلهم بإمكانية الاستفادة من هذه اللحظة التاريخية، كما قال فالديس دومبروفسكيس المفوض الأوروبى للاقتصاد: «استقرارنا وقابليتنا للتنبؤ واحترامنا لسيادة القانون يثبت بالفعل قوته» هذه العوامل مجتمعة تعزز جاذبية الأصول المقومة باليورو لدى المستثمرين الباحثين عن بدائل أكثر استقراراً.
قد انعكس هذا التحول فى الأرقام أيضاً إذ ارتفع اليورو بنسبة 5.4٪ مقابل الدولار منذ بداية أبريل الجارى مسجلاً أعلى مستوياته منذ أواخر عام 2021 غير أن هذه الطفرة تثير تساؤلات: هل هى مجرد تصحيح مؤقت للمحافظ الاستثمارية أم أنها بداية مسار طويل الأجل نحو تعزيز موقع اليورو عالمياً؟
حتى الآن ما زال اليورو يستخدم فى حوالى 20٪ من احتياطيات النقد الأجنبى عالمياً بينما يظل الدولار مهيمناً بحصة تفوق 50٪ ولكن التغيرات الإيجابية الأخيرة فى سوق السندات الأوروبية وتحسن العوائد والثقة المتزايدة بالبنك المركزى الأوروبى كملاذ أخير تضع أساساً متيناً لليورو كى ينافس بشكل جاد فى المستقبل.
لكن الطريق أمام اليورو ليصبح منافساً حقيقياً للدولار ليس مفروشاً بالورد، كما أشار كلاس نوت محافظ البنك المركزى الهولندى فإن «القوة الخارجية» لليورو تعتمد على «القوة الداخلية» لأوروبا وهذا يتطلب إصلاحات عميقة تشمل تعزيز السوق الموحدة وإقامة اتحاد أسواق رأس المال بما يضمن انتقال الأموال بحرية عبر الحدود الأوروبية وتحسين القدرة التنافسية الاقتصادية للاتحاد.
إن اللحظة الحالية كما وصفها أولى رين محافظ البنك المركزى الفنلندى «فترة للإبداع والبراجماتية».. أوروبا أمام اختبار حقيقي: إما ان تقتنص هذه الفرصة لتعزيز مكانة اليورو وجعله بديلاً موثوقاً عالمياً أو أن تتركها تفلت كما فلتت فرص سابقة.
فى النهاية لن ينهار الدولار بين عشية وضحاها ولكن عالم العملات يشهد بصمت بداية تحولات قد تعيد رسم ملامح النظام المالى العالمى لعقود مقبلة.. وعلى أوروبا أن تتصرف بذكاء وسرعة فمثل هذه الفرص لا تتكرر كثيراً.