يعد الناقد والأكاديمى الكبير الدكتور خيرى دومة أستاذ الأدب العربى الحديث بجامعة القاهرة أحد أبرز الأصوات النقدية المعاصرة فى المشهد الثقافى المصرى والعربى وذلك من خلال بصمة واضحة له ورؤى ومقاربات نقدية وفكرية مائزة، مدير مركز تعليم اللغة العربية للأجانب بجامعة القاهرة، كما شغل منصب نائب مدير المركز القومى للترجمة وسبق له أن عمل أستاذا بإحدى الجامعات اليابانية، وقد نال كتابه «أنت / ضمير المخاطب فى السرد العربي» جائزة أفضل كتاب فى معرض القاهرة للكتاب عام 2017.. وله أيضا الكثير من الكتب والدراسات منها: «تداخل الأنواع فى القصة المصرية المعاصرة»، «عدوى الرحيل/ موسم الهجرة للشمال ودراسات ما بعد الاستعمار».
وهو أحد قلائل فى الحركة النقدية الذى يؤمن بأن ممارسة النقد لا تتطلب بالضرورة تقعراً واستعلاء فى اللغة والطرح مؤكدا أن مثل هذه الاساليب النقدية هى التى زادت الفجوة بين النقد والجمهور وتركته طويلا فى عزلته الأكاديمية.. وفى هذا الحوار يجيبنا على الكثير من التساؤلات المهمة عن الأدب والنقد والجوائز ويفسر لنا الكثير من الظواهر المربكة.
> كيف ترى المشهد النقدى الحالى وتقييمك له؟
>> الحركة النقدية تحاول استعادة توازنها وعافيتها بعد أن أسهمت عوامل كثيرة فى خلخلة حركتها وجعلتها لا تقوم بوظيفتها التى كانت تقوم بها قبل ذلك لأسباب متعددة منها: تأثر النقد العربى بالنقد المغربى لعقود طويلة، خصوصا وباتجاهات جاءت من النقد الشكلانى ومن اتجاهات جديدة فى النقد لم تُستَوعَب بما فيه الكفاية ورددها باحثون مجرد ترديد وبالتالى هذا النقد انفصل عن القراء.. فكانت لدينا خلال العقود الماضية أزمة عظيمة جدا فى التواصل مع القارئ العادى أو القارئ العام وحتى مع القارئ المتخصص.. وعن نفسى ورغم كونى أنا أستاذ أدب ونقد أجد صعوبة كبيرة فى فهم بعض الكتب حتى كتب النقد التى يكتبها زملائى أو يكتبها متخصصون من أساتذتى أو من زملائى فالصياغة معقدة وكأنه نوع من التعالى على القراء، وفى المقابل لا يصح أن يكون النقد مشاعا ومتاحا للكل لأن تسهيل النقد يفقده قيمته.
> هل تعتقد أن على الناقد أن يمتع القارئ مثل المبدع تماما؟
>> لا نقد بدون متعة والنقد لا قيمة له ولن يصل إلى القراء ما لم يستمتع القراء به.. فالحفاظ على هذه المتعة مرتبط بقدر من السهولة وقدر من العقلانية وبقدر من التماسك وبأن يكون لدى الناقد فكرة يريد التعبير عنها وليس مجرد الحكى أو نقل شيء من نقد آخر لكن لابد أن يكون لديه فكرة ورؤية يحاول توصيلها للقراء.. وهذا هو الأمر الوحيد الذى يغرى القارئ فيقرأ وإذا كنا قد مررنا بأزمة طويلة خلال السنوات الماضية فإن هناك محاولة لاستعادة التوازن من جديد.
مسئولية مجتمعية
> ألا تعتقد أن من مسئوليات الناقد تنوير الذائقة المجتمعية والإشارة للجمال الحقيقي؟
>> أعتقد أن النقاد يحاولون استعادة توازنهم وهناك أمثلة كثيرة من هؤلاء مثل محمد عبدالباسط عيد وهذا أحبه كثيراً وله صفحة على الفيس بوك.. أنا أرى أن كتابته مغرية وهو فنان من ناحية أخرى ومدرك لأبعاد الأدب ويقدمه بشكل جيد جداً وبالتالى أظن أن هذا جزء من حركة استعادة التوازن. أيضا لدينا محمد الشحات وهو ناقد جديد مثل عبدالباسط يحاول أن يقدم رؤية خاصة ولا نريد أن نحصر أسماء لكن هذا على سبيل المثال وليس الحصر وهم نقاد يحاولون أن يتواصلوا مع نطاق أوسع من القراء من خلال الكتابة فى الصحف أو المجلات الأوسع انتشارا وكذلك وسائل التواصل الاجتماعى التى سهلت وصول النقد لجمهور أوسع.
الإبداع والنقد
> هل تتفق مع مقولة أن الإبداع تجاوز النقد الذى انعزل داخل أسوار الجامعة؟
>> نسبيا فنحن لدينا كمية كتابة إبداعية واسعة للغاية فهناك تجارب كثيرة وعدد كبير جدا من الكتاب الشباب الذين يكتبون دون نقد ولا ينتظرون نقدا لأنهم يعبرون عن تجارب جديدة لا أول لها ولا آخر، فنحن دخلنا فى عالم معقد ومركب وأجيال وراء أجيال كلهم له تجربته الخاصة التى يعبر عنها والنقد فى الحقيقة غير قادر على مواكبة هذا العدد الكبير من المبدعين أو الكتاب ولهذا فإن المبدعين الجيدين يقع عليهم ظلم كبير.. فدائما هناك مبدعون جيدون وهناك مبدعون من الدرجة الثانية وللأسف فإن أصحاب الدرجة الثانية يظلمون الكبار وهذا ما يحدث عادة لكن أيضا النقاد يحاولون البحث وسط هذا الصخب عن الأعمال الجيدة وبالتالى يعلقون عليها ويناقشونها بشكل مفيد للمبدعين وللجمهور.
الجوائز واكتشاف المواهب
> هل ترى أن الجوائز الكبرى تقوم بدورها فى إخراج أو اكتشاف مواهب حقيقية أم أن لها دوراً سلبياً؟
>> الجوائز دائما لها دور إيجابى أيا كانت فأنت عندما تنشئ جائزة وتقول إن هؤلاء الخمسة مبدعون كبار انتبهوا، سيتم الالتفات لهم حتى لو كان هذا الحكم غير نهائى أو غير متكامل إلا أن اجتماع أعضاء لجنة الجائزة على هذا الرأى له أساس ومعني.. وهذا يسهل أيضا على القراء أن يتوجهوا لهم دون عناء البحث.. وهناك مبدعون كبار لا يتقدمون للجوائز مثل أن يكونوا زاهدين فى المشاركة فى الجوائز أو غير حريصين ومن الممكن أن تتوه أعمالهم فى الزحام وفى النهاية من الأفضل أن تنتبه أيضا للكتاب الذين لم يشاركوا بقدر انتباهك لمن يشارك وهذا له علاقة بخبرة النقاد أنفسهم وكذلك دور الصحفيين ومن يقرأون وتذكر أن الصحافة الثقافية تلعب دورا كبيرا جدا فى اكتشاف المبدعين وتقدم أعمالا عظيمة للقراء ولدينا صحفيون كبار متخصصون فى الثقافة قدموا كتابا مبدعين.
زمن الرواية
> هل ترى أننا فى زمن السرد والرواية؟
>> الحقيقة نعم.. ويحضرنى هنا كتاب الدكتور جابر عصفور «زمن الرواية» فالرواية احتلت بالفعل مكانا كبيرا للغاية فى عالمنا ليس فقط فى مصر لكن فى العالم أجمع و هى التى تأخذ جوائز نوبل بخلاف الشعر رغم أنه فن أصيل جدا وعميق للغاية ويعبر عن الناس من الداخل وهو مركز وله جماليات خاصة جدا ولا ينتهى وأنا شخصيا أحب قراءة الشعر طوال الوقت رغم أنى أعمل فى الرواية والقصة القصيرة لأنى أشعر أن الشعر له متعة مختلفة تماما وبالتالي.
> إذن أنت تقر بموت الشعر أو على الأقل خروجه من المنافسة؟
>> لا أحد يستطيع أن يقول إن الشعر مات فهو موجود لكنه أخذ أشكالا جديدة وتطور وانعزل وهذه قصة أخرى فالشعر للأسف انعزل عن الذوق العام رغم أن شعراء قصيدة النثر مثلا يعبرون عن الذوق الجديد والآلام الجديدة التى يرونها فى العالم المعقد المركب الصعب لكنهم كلما عبروا بطريقتهم الغريبة ابتعدوا عن القارئ العادى الذى تعود على النمط العادى التقليدى فى مجتمع يعانى من الأمية كثيرا لكن لا أحد يستطيع أن يطالبهم بالنزول لهذا الجمهور لأن تجاربهم مركبة وهم فى برج عاجي.
> هل مازلنا نستطيع قراءة «بيت» من الشعر «يعادل» رواية؟
>> هذا ما قاله العقاد أو ما معناه.. لكنى أرى أن المتعة مختلفة فمتعة الرواية هى متعة التفاصيل والذهاب إلى عالم اليوم بكل دقائقه لكن الشعر تجريدى أكثر وعميق أكثر ويذهب لمنطقة مختلفة والرواية عالم آخر معنى بالتفاصيل وبالتالى له جماليات مختلفة عن الشعر.
دور النشر
> هل ترى فرصة نشر النقد الجاد مثل نشر الرواية أو الشعر أو الإبداع بشكل عام؟
>> بالنسبة لى على الأقل فإن دور النشر تطلب بصفة كبيرة ومستمرة أى أعمال نقدية للنشر وأظن أن دور النشر نشرت أعمالا لنقاد كثيرين.. وكثيرا ما كان النقد ينشر مثله مثل الرواية وباقى صنوف الإبداع لكن المشكلة أن النقد هو القليل فلا يستطيع الملاحقة لكن الأعمال النقدية الجادة يتم نشرها لهذا تجد الإصدارات النقدية قليلة مقارنة بباقى الإصدارات وقد تكون النسبة من واحد إلى مائة.
> لماذا لا تلجأ لجان تحكيم الجوائز إلى حجب الجائزة لو كانت كل الأعمال المقدمة دون المستوي..؟
>> فى الواقع نادرا ما يتم حجب الجائزة ونادرا ما تقول اللجنة إن كل الأعمال المقدمة لا تستحق فهى تختار أفضل الموجود وتمنحه الجائزة.. فمثلا أنت أعلنت عن جائزة باسم فلان وتقدمت لها أعمال كثيرة منها ثلاثة فقط أعمال جيدة فأنت تكون مضطرا لأن تأخذ «أفضل الوحشين» مثلا.. فاللجنة تأخذ أفضل من تقدم للجائزة وهى تعلم أن هناك أفضل لكن لم يتقدم.. فالمسألة ليست حكما على كل ما فى السوق أو ليست على العموم لكنها حكم على ما تقدم بالفعل للجائزة وليس شرطا أن يكون الأفضل على الإطلاق.. واللجان عادة لا تحجب الجائزة لأن الحجب قد يحبط الكتاب الشباب الذين يكون لديهم رغبة فى تطوير أدواتهم فالأفضل هو اختيار أحسن المتقدمين كأنك تقول له إن لديه فرصة للتطوير أو أنك بذلك تدفعه للتطور.
روايات الذكاء الاصطناعي
> ما رأيكم فى الروايات المكتوبة بالكامل بالذكاء الاصطناعي؟
>> هذه قصة كبيرة لا أدرى كيف ستنتهى ولا إلى أين ستأخذنا.. وهذا الأمر لا يتعلق فقط بالرواية بل بالشعر والقصة والبحث والنقد أيضا.. وأذكر أن أحد الزملاء كتب بالذكاء الاصطناعى عددا من القصص وكتب لها تحليلا بالذكاء الاصطناعى أيضا ثم نشره كبحث دون أن يقول إنه استعان بالذكاء الاصطناعى ثم جاء فى النهاية وقال يا جماعة «خلوا بالكم» هذا العمل كله بالذكاء الاصطناعى وأنا «ضحكت عليكم» والأمر كله مصنوع وليس إبداعيا.. لكن طبعا من يقرأون جيدا سيعثرون على الفرق أو سيضعون أيديهم على بصمة الذكاء الاصطناعى فمثلا فى أبحاث الطلاب تجد كلاما جميلا لكن ليس وراءه شيء، إضافة لوجود أخطاء مباشرة ومعلومات غير دقيقة فتستطيع اكتشاف الأمر بنظرة فاحصة.. لكن فى الحقيقة لا تستطيع أن تدين هذا الذكاء الاصطناعى لأنه يقدم خدمات لكثيرين مثل مدرس يجهز دروسه مستعينا بالذكاء الاصطناعى ليبتكر له طريقة أو تصميما معينا أو توجيها بعينه فهناك مجالات تجد استخدامه فيها محمودا وأكثر إنجازا لكن فى الإبداع هو خطر وخطأ لأن الإبداع بصمة خاصة تمثل الشخص نفسه وبالتالى هو أبعد ما يكون عن الإبداع.
* هل هذا الأمر من الممكن أن يخدع النقاد؟
أشك فى هذا جدا جدا.. فهذه البصمة الخاصة حتى الآن لم ينجح الذكاء الاصطناعى فى عملها التى تجد فيها روح الكاتب حتى وإن كان قادرا على كتابة الأحداث والفصول والشخصيات طوال الوقت لكن فى النهاية يعجز عن وضع هذه البصمة الخاصة جدا.
طبعا هو باب مفتوح قد يغذونه يوما ما بإمكانيات تمكنه من ترك هذه البصمة لكن فى حدود علمى لم يحدث هذا حتى الآن.
النشر الإلكتروني
> البعض ينشئ صفحات على الفيس بوك وينشر عليها قصصا أو روايات على أجزاء أو خواطر.. فهل هذا النشر الإلكترونى بلا حساب وبلا رقيب من الممكن أن يخرج لنا مبدعين؟
>> ممكن جدا يخرج لنا أدباء ومبدعين.. لأنك زمان كنت تحتاج إلى مجهود كبير جدا حتى تنشر عملا لك أو تراسل صحيفة وتنشر لك بصعوبة وقد لا تنشر لكن الآن أصبح الأمر فى غاية السهولة فقد أصبح قرارك لا قرار غيرك بمجرد إنشاء صفحة على مواقع التواصل والتى يكون لها قراء كثيرون.. وأعتقد أنها عملية إيجابية جدا.. لتقديم المبدعين رغم أنه كذلك يسمح لمن لا يستطيع الكتابة ولا يجيد التأليف أن يكتب وينشر.. لكن الفرز يحدث بشكل طبيعى من القراء فمثلا عندما تدخل على صفحة فلان ولا تعجبك كتابته أو طريقته لن تتابعه أو تقرأ له.. لكن الحقيقة فتح المجال بهذا الشكل فرصة عظيمة جدا لا تستطيع أن تدينها أو ترفضها.. والرهان على ذائقة ووعى القارئ.