ورد لفظ الميثاق الغليظ فى القرآن الكريم ثلاث مرات ، الأولى فى قوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا»، وهو ميثاق تبليغ الرسالة ، فالله «عز وجل» أخذ من هؤلاء الأنبياء ميثاقًا عظيم الشأن ، يقول سبحانه: «فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فالملك إذا أرسل رسولا وأمره بشئ فهو ميثاق ، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عنه كان ذلك تغليظًا للميثاق ، فهو عهد فى أقصى درجات الدقة والأهمية .
وجاء ذكر نبينا «صلى الله عليه وسلم» فى الآية الكريمة: «مِنكَ»، وذكر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى «عليهم السلام» بعد ذكر النبيين من باب ذكر الخاص بعد العام ، كونهم أُولِى العزم من الرسل وتحملوا ما لم يتحمله غيرهم فى سبيل تبليغ رسالات الله «عز وجل».
والمرة الثانية فى قوله تعالى عن بنى إسرائيل: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظً، وغِلَظ الميثاق هنا لأنه كان شديدًا قويًا فى معناه وموضوعه وما اشتمل عليه من أوامر ونواه وأحكام مع التأكيد على الالتزام بما حمله الميثاق ، ولأنهم كانوا منغمسين فى الجحود والعناد والإنكار فكان المناسب فى الآية تأكيد العهد والميثاق وتغليظه عليهم مراعاة لطبيعتهم الناكثة للعهود .
وقد أسند رب العزة «عز وجل» أخذ الميثاق إلى ذاته العلية فى قوله تعالى : «أَخَذْنَا» تنبيهًا على أهميته ، فقد أخذ سبحانه وتعالى العهد والميثاق على اليهود أن يعملوا بما أمرهم «عز وجل» به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ، إلا أنهم نقضوا عهودهم ومواثيقهم وكفروا بآيات الله ونبذوها وراء ظهورهم ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالي: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ»، ويقول سبحانه: «فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ».
والمرة الثالثة فى قوله تعالي: وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا، ووصف الميثاق بالغلظة فى هذه الآية الكريمة لقوته وعظمته ومدى أهميته فى بناء الأسرة، والميثاق الغليظ هو العهد الذى أُخِذ للزوجة على زوجها عند عقد النكاح، وما يتضمنه من حق الصحبة والمعاشرة بالمعروف .
وقد ربط الإمام الفخرى الرازى فى تفسيره بين أخذ الميثاق الغليظ من النبيين وأخذه من الأزواج بما يؤكد أن الجامع بينهما هو الأهمية وضرورة مراعاة هذا العهد وتعهده والوفاء بحقه .
والميثاق الغليظ يقتضى حسن المعاشرة بين الزوجين ، والصدق ، والتضحية ، والبذل ، والوفاء والحب، والتفاهم ، وقالوا : صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف بحق العشرة بين الزوجين .
وكل ذلك إنما هو تأكيد على أهمية تقوية عرى الروابط الأسرية ، وضرورة رعايتها والحفاظ عليها ، فالأسرة التى تُبنى على المودة والرحمة والتفاهم والحوار الهادئ تكون أكثر سعادة واستقرارًا وتثمر نباتًا حسنًا ، وأبناء صالحين ، وتكون لبنة هامة فى بناء مجتمع قوى متماسك ، والأسرة التى تُبنى على الأنانية والقسوة وتجف فيها المشاعر الإنسانية سرعان ما تحمل عوامل هدمها ، وتكون لبنة قلقة بين لبنات البناء المجتمعى الذى يكون حظه من القوة أو الضعف وفق نسب قوة أو ضعف الأسر التى تشكل بناءه ومجمل لبناته .