فى زمن السوشيال ميديا.. هل لا يزال الكتاب أوفى صديق..هل لا يزال، كما كان فى الزمن الجميل، غذاءً للعقل، ومستودعًا للعلوم والمعارف، ومخزون التجارب الإنسانية والأفكار والخواطر التى تصنع أى تغيير حقيقى فى ثقافة الأفراد ومصائر الشعوب.
فى ثقافتنا العربية حفاوةٌ كبيرةٌ بالكتاب؛ وقد وردت آيات قرآنية عديدة تعلى من قدره، وتقرنه بالقوة والعزة تارة، والنور والهدى واليقين تارة أخرى يقول الله تعالي:» يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيًا».. ويقول أيضًا «ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» ويقول تعالى «والنور الذى أنزلنا».
الكتاب مصباح للحاضر، ونافذة للمستقبل، به تتغذى العقول وتتلاقح الأفكار وتتقدم الدول وتزدهر الحضارات، وما عرفت الحضارة العربية أوج مجدها وازدهارها إلا حين احتفت بالعلم وجعلت الكتاب فى صدارة أولوياتها، وقد علمنا من كتب التاريخ أن الخليفة العباسى هارون الرشيد كان يعطى لمن يترجم كتابًا فى العلوم من اللغات الأجنبية إلى العربية وزنه ذهبًا..!!
هذا غيض من فيض تراثنا وتاريخنا مع الكتاب تكريمًا وتقديسًا..فماذا عن زماننا..هل لا يزال الكتاب، مطبوعًا كان أو إلكترونيًأ، على عرشه ملكًا متوجًا يحظى بالعناية والتقدير..هل لا يزال يلقى الحفاوة والتقدير أنفسهما.. أم أنزلته السوشيال ميديا عن عرشه، وألقى به غلاء مستلزمات الطباعة فى غياهب النسيان والإهمال.. وماذا عن مكتبة الأسرة التى جعلت الكتاب وكنوز المعرفة فى متناول الطبقة الوسطى ومحدودى الدخل فى زمن مضي..وهل لا تزال معدلات المقروئية فى أحسن حالاتها أم تراجعت وتدنت وصارت هى الأخرى شيئًا من الماضى الذى نتغنى به..؟!
الكتب عصارة فكر وتجارب يكتبها علماء متخصصون، أو أشخاص ناجحون يروون تجارب نجاحهم وقصص كفاحهم وخلاصة أفكارهم وكيف رفضوا الاستسلام لعقبات واقعهم أو التفريط فى طموحاتهم وأهدافهم المرسومة وأحلامهم التى دعبت خيالهم..فهى بهذا المعنى ملهمة للأجيال!!
هناك من يهوى الكتب طلبًا للمتعة والسرور؛ ذلك أن القراءة تجلب لصاحبها متعة غير التى تجلبها مشاهدة الأفلام وممارسة الألعاب؛ فهى -أى القراءة- تنقل قارئها من عالم ضيق إلى عالم أكثر رحابة واتساعاً يعرض عليهم من قصص الحياة ومواقف التاريخ ما يعين على فهم الحاضر والتعامل مع تحدياته وما أكثرها فى زمانن..!!
قارئ اليوم غير قارئ الأمس، فلكل زمن معطياته وظروفه، لكن يجمعهما قاسم مشترك وهو حب القراءة والشغف بالمعرفة للكتب التى تتناول موضوعات وقضايا مختلفة ذات طابع ثقافى متنوع؛ تمنح المتعة والسرور وتحرض العقل على التفكير والنقد وحرية الاختيار وتكوين المواقف والقناعات..وهنا تتولد القدرة على التغيير والتطور وامتلاك ناصية المعرفة والتخلص من الجهل والسلبية والتواكل والخرافة.
وكلما زادت قراءة الإنسان زادت حصيلته من المعرفة، واتسعت مداركه، وصار عصيًا على الاستقطاب والتوجيه وتغيرت سلوكياته وتنامت قدراته واتسع خياله؛ فلا شيء يمكن أن يبنى العقل السليم أكثر من القراءة الرشيدة النافعة وهذا أول درس تعلمناه من القرآن حين ابتدأ التنزيل بآية «اقرأ باسم ربك الذى خلق»..فلو لم يقرأ الإنسان فكيف يتعرف على خالقه وعظمته وقدرته جل شأنه..؟!
الكتاب صديق أمين مؤتمن، بل لعله يفضى إليك بأسراره ولا يفشى لك سرًا، ويمكنه إن أفسحت له وقتك وعقلك أن يغير مسارات حياتك للأفضل؛ فهو يمدك بالنصيحة حتى ولو لم تطلبها..وهذا يتوقف على نوعية الكتب التى تقتنيها وتحرص على قراءتها..فالكتب كما كل شيء فيها المفيد النافع والغث التافه..فاحرص على ما يزيدك إدراكًا وفهمًا وعلمًا..وهنا يثور سؤال: هل لا يزال من يعملون فى مجال الثقافة والإعلام والصحافة يهتمون بقراءة الكتب وهل يجدون وقتًا لذلك..هل يشعر جمهورهم بأن على درجة عالية من الثقافة والوعى والفهم الرشيد..وأترك لكم الإجابة !!.
وأذكر حين توليت، لخمس سنوات، رئاسة تحرير كتاب الجمهورية الذى يصدر عن دار التحرير للطبع والنشر (الجمهورية) أن تكون تلك السلسلة منارة إشعاع للثقافة والمعرفة، وحرصت على انتقاء إصداراتها بمعاونة صادقة من زملاء اجتهدوا فى ذلك ما وسعهم الجهد وعلى رأسهم الزميل عثمان الدلنجاوى الذى كان وقتها نائبًا لرئيس تحرير الكتاب.
وكنت حريصًا على نشر كتابين أو ثلاثة كل شهر، وهو أمر غير مسبوق فى تاريخ كتاب الجمهورية والمؤسسة، وكان الكتاب يحقق أرقام توزيع كبيرة تخطت أربعة آلاف نسخة للإصدار الواحد، وثمة كتب صدر منها أكثر من طبعة نظرًا لإقبال القارئ عليها أذكر منها كتاب «الملك فاروق» و كتاب «محمد نجيب»، وقد حقق الكتاب آنذاك أرباحًا للمؤسسة لأول مرة، بعد كانت طباعته عبئًا يتسبب فى جلب خسائر للميزانية.
وفى نهاية كل عام كنا نصدر ما يشبه «الكتاب السنوي» الذى يرصد أهم أحداث العام التى شغلت الرأى العام، وأهم ما سطره الكتاب والمفكرون من مقالات حتى ولو كانوا من المعارضين للنظام.
الكتاب السنوى كان يقترب من ألف صفحة يصدر تحت عنوان «أحوال وطن» وقد لقى أحد الكتب السنوية إعجاب المفكر الكبير والكاتب الصحفى اللامع أنيس منصور فكتب عنه مقالاً مميزًا فى عموده اليومى «مواقف» بالزميلة الأهرام بعد اندلاع أحداث يناير 2011 وتحديدًا فى الرابع عشر من فبراير ذلك العام.
لقد كانت تجربةً ثريةً ومفيدةً ومهما يكن زماننا مختلفاً بما يشهده من ثورة اتصالات وتكنولوجيا المعلومات فلا تزال الصحافة الورقية والكتاب المطبوع موجودًا له جمهوره وسوف يستمر مصدر إلهام للقارئ المثقف..وحتى فى أعتى الدول تقدمًا فإننا عندما نسافر إليها نجد مواطنيها مهما علا شأنهم يقبلون على قراءة الكتاب فى المترو وفى المواصلات العامة ثم يتركونه نظيفًا سليمًا لمن يأتى بعدهم ليطالعه وتلك سمة الدول المتقدمة.. والسؤال هنا: هل يهتم أساتذة الجامعات عندنا بقراءة الكتب؛ ويفترض أنهم ملهمون لطلابهم وقدوة لهم يأخذون بأيديهم للعلم والمعرفة والإبداع.. وهل يحرص الإعلاميون على القراءة ليكونوا مثقفين بحق يحملون مشاعل التنوير والثقافة ويكرسون لحالة وعى حضارى بما يجب على المتلقين أن يفعلوه فى زماننا.. صدقونى القراءة مفتاح التقدم وباب العلم وركيزة الحضارة.. وهى وحدها قادرة على إحداث التغيير المنشود فى سلوكياتنا ونظرتنا للحياة… فهل نعود للقراءة لنعيد للكتاب عصره الذهبي..؟َ!