عندى قناعة أن العزاء وسرادقاته ليس للأموات بل للأحياء، فالبعض يحوله إلى فرصة لاستعراض الثراء والوجاهة والحضور الاجتماعى والقدرة على إقامة السرادقات والتباهى بالغنى والأدهى أن البعض ابتدع أمورًا عجيبة تنزع عن الموت جلاله وعن الحزن روحه وعن العبرة جوهرها حين يقوم بإحضار من يقوم بتصوير العزاء ليحصى من حضر ومن تخلف فى ظاهرة تكرس للنفاق الاجتماعى والتسابق لإرضاء البشر لا مواساتهم فى مصابهم الذى بات هينًا حين تشاغل عنه أهل الميت بتفاصيل السرادقات والقراء والبوفيه وتصوير مجريات العزاء.. فهل ذلك من الشرع فى شىء.. أليس ذلك إسرافًا وتبذيرًا وانتهاكاً صارخًا لحرمة الموت، تلك المصيبة التى أولى بمن أصابته فى عزيز أن يبكى ليس على ميته بل على نفسه التى سيأتيها الموت حتماً إن عاجلاً أو آجلاً، وسوف يُفعل بك مع ما فعلته مع غيرك، أبًا كان أو أخًا أو زوجًا أو أمًا أو ابنًا..؟!
لفت انتباهى ما قالته الفنانة نجوى فؤاد فى حوارها لبرنامج «حبر سرى» حين أكدت أنها ستكتب فى وصيتها «ميعملوش عزاء» وأنها ستتبرع بأعضائها باعتبار أن الحى أبقى من الميت، أما سبب كراهتها للعزاءات فذلك لأنها تحضر مثل هذه المواقف كثيرا وتجد أن الذين يشعرون بالحزن من داخلهم قليلون.. وأنه فى أى عزاء يكون البعض مشغولا بالتحدث فى الهاتف المحمول دون الشعور بالحزن وهذا لا تتمناه لنفسها، قائلة: «أنا بتمنى أروح لربنا وحيدة كما أنا، وأعيش حياة طبيعية مع ربنا».
ما قالته نجوى فؤاد فيه شىء من الوجاهة العقلية والعبرة والعظة أيضًا، فهى تدرك أن الموت آتٍ لا محالة، وأن سرادقات العزاء بصورتها الحالية صارت مناسبة مرهقة لأهل الميت، ناهيك عن تحولها لجلسات نميمة ورغى وسجال وربما التباهى بالمظاهر الكاذبة دون العظة بجلال الموت وقدسيته أو الاستعداد ليوم كهذا سيأتى حتمًا لا محالة، فماذا سيأخذ الميت من سرادق عزاء فخم وإنفاق باذخ على مشاهير القراء ودور المناسبات والبوفيهات وغيرها من أشكال التباهى والبذخ التى لن يصل للميت منها شىء، فالميت أحوج لدعاء صادق من ولد صالح أو محب مخلص أو صدقة جارية يستظل بظلها، فالميت فى ظل صدقته.
الأصل في العزاء أنه مواساة لأهل الميت ومساندتهم لتخفيف مصابهم وحثهم على الصبر والدعاء للميت بالرحمة والمغفرة، فقد انقطع عمله ولا ينفعه بعد مماته إلا الدعاء.
لكن ما يحدث واقعيًا، أن البعض يقيم سرادق عزاء فيتجمع الأهل والأقارب والجيران وأهل الحى، فيمضون وقتًا يطول أو يقصر فى استقبال المعزين قد يستغرق ثلاثة أيام، تاركين أعمالهم وشئون حياتهم، ويتبارى فيها الأقارب بتقديم موائد طعام وشراب، ويتباهون بتقديم الأفضل والأحسن، ليس كرمًا، وإنما رغبة فى انتزاع إشادة الحاضرين، وقد ينقلب الحزن إلى تبادل للنكات والضحك، والأحاديث الجانبية، دون مراعاة لمشاعر أهل الميت الذين ليس أمامهم إلا الصمت والاستسلام لكل ما يحدث أمامهم، وقد يستنكر البعض هذا السلوك فيقابل بالانتقاد.. وتلك عادات ينهى عنها عدد من العلماء ويرى بعضهم أن يقام عزاء مبسط فى مسجد يتم فيه مواساة أهل الميت لساعات معينة أو يكتفى بالعزاء فى المقبرة بعد الدفن أو فى الطريق، فذلك أفضل من سرادقات عزاء وتبذير للأموال وإسراف فى الولائم التى تقام بحجة إطعام أهل الميت وربما يكون ذلك للرياء والسمعة.. فما جدوى ذلك للميت..؟!
ويبقى أن إقامة السرادقات للعزاء إذا لم تشتمل على منكر فهى مكروهة عند كثير من العلماء، وأما إذا اشتملت على منكر فهى محرمة، وقد جاء فى فتاوى الأزهر: أن هناك اتفاقًا بين الأئمة على أن إقامة السرادقات – ومثلها دور المناسبات – لتقبل العزاء غير محمودة، وأقل درجاتها الكراهة أو خلاف الأولى، مع العلم بأنها إذا كانت للمباهاة كانت حراماً، وإذا أنفق عليها من أموال القصر كانت حراماً أيضاً.. والسؤال: أليس الأولى بأهل الميت أن يوفروا نفقات سرادقات العزاء ليتصدقوا بها على الفقراء، طلباً للثواب الذى ينفع الميت أكثر مما ينفعه سرادقات العزاء التى باتت تعج بالسلبيات والأخطاء التى تنتهك حرمة الموت الذى هو غاية كل حىّ، لقوله تعالى «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة».. فهل ندرك أن العزاء البسيط دون بهرجة مواساة لأهل الميت من فضائل الأعمال.. أما إذا خرج عن هذه الغاية للتباهى والفشخرة واستعراض مظاهر الثراء والنفوذ.. فذلك أمر لا يفيد الميت فى شىء.. رحم الله موتانا وأسكنهم فسيح الجنات.