ما أصعب أن تلملم حروفك لتحولها كلمات ترثى بها إنساناً كان منذ لحظات واقعاً تعايشه وفجأة يختطفه الموت ليضحى ذكرى وما أصعب الذكرى عندما يحولها المرض إلى مأساة يعيشها هذا الشخص الذى كان طاقة للأمل والانطلاق لكن دون أن يدرى تمكنت منه آهاته وحولته لشبح ربما ظن أنه قادر على مواجهة المرض لكن سرعان ما وهن جسده أمامه .
فى محكمة الجلاء كان لقائى الأول بالزميل محمد منير شاب بشوش تكسو وجهه ابتسامة رضا ممزوجة بطاقة أمل فى صناعة واقع أفضل من الظروف المحيطة.. كان وقتها محرراً فى قسم الحوادث بالشقيقة المساء عندما كنت أنا أتابع نفس الاختصاص فى الجمهورية دون سابق معرفة وجدته يتحدث إلى بود شديد لم أشعر معه أن هذا اللقاء الأول بيننا ربما أعرفه من قبل ولكن ذاكرتى لا تسعفنى لكن حتماً نحن أصدقاء ونعرف بعض جيداً وهكذا كانت ابتسامته العفوية جواز مروره لقلوب الكثيرين .
فى كل مرة ألتقيه أسأله ما إذا كان قد اتخذ قراره ليودع العزوبية فيأتى سؤاله عما إذا كان لدى بنت الحلال التى تحسن لوالدته فهو لا يريد الزواج بقدر ما يريد زوجة تكون ابنة حقيقية لوالدته وتتحول دفة الحديث عن هذه المرأة التى لا يريد من الدنيا غير الاطمئنان عليها وإسعادها.. وقتها كانت كلماته تمر على مسامعى مرور الكرام حتى كان هذا الموقف المهيب عندما تركها تواجه مصيراً غير معلوم بمفردها وذهب ليستريح بعد أكثر من عامين من المعاناة مع المرض الذى احتار الأطباء فى أمره فى البداية لكن فى حقيقة الأمر كانت مراوغة منه حتى لا يستسلم للسرطان اللعين الذى ظل يأكل فى جسده لكنه لم ينجح فى إخفاء ابتسامته حتى فى آخر مرة التقيته فيها وكان المرض قد أفقده أكثر من نصف وزنه لكنه لم ينجح فى سلبه ابتسامته المعهودة .
كثيراً ما كان يدعونى لرحلة من الرحلات التى كان ينظمها ورغم نجاحه فى إقناعى بتفاصيلها لكن دائماً ما كانت الظروف تعاندنى مرة لإنشغالى مع أولادى فى الدراسة وآخرى لمشاغل العمل التى لا تنتهى وفى كل مرة تأتى جملته «متعى نفسك ولا تستسلمى لطواحين الحياة».. حتى أن رسالته الأخيرة لى كانت «استمتعى بكل حاجة حلوة فى حياتك» ولا أعرف كيف لى أن أفعل ذلك والرفقاء يغادرون واحداً تلو الآخر فكيف لى أن أحقق ذلك والحياة باتت قاسية .
وبنفس القسوة التى رحل بها الزميل محمد منير كانت القسوة فى خبر رحيل الأستاذ أحمد حسين أحد الأسماء المضيئة فى كتيبة محررى الإسكان فى العصر الذهبى لصاحبة الجلالة.. رجل يبهرك بأخلاقه وهدوئه لديه سكينة قادرة على تخليصك من صراعات الدنيا يتحدث إليك بنبرة هادئة يسدى لك النصائح وهو يطالبك بعدم الدخول فى صراعات تأخذ منك أكثر مما تعطيك .
فى مرة دار بيننا حديث وظننت أنه سيكون غاضباً لمشاركتى له تغطية أخبار الوزارة التى ارتبط اسمه بها على ما يقرب من 40 عاماً فإذا به يترفع عن الأمر ويكتفى باختيار يوم وحيد لمتابعة أخبار الوزارة فيه .
فعل ذلك بهدوء ولم يكتف بذلك بل قام بتوصية أصدقائه فى الوزارة لمساعدتى ومنحى ما يسهل مهمتى.. فعل ذلك بحب ولم يبد فى أى يوم من الأيام انزعاجه بل دوماً ما كان يقابلنى بإبتسامة كفيلة بأن تبعث فى نفسى حالة من الاطمئنان نجحت فى احتفاظه بمكانة لم يصل لها غيره .
رحم الله الصديق العزيز محمد منير وألهم والدته الصبر على فراقه وغفر الله لأستاذى العزيز أحمد حسين وأنزل الله بأسرته السكينة على رحيله .