قد يضيع المرء عمره فى البحث عن سراب اسمه السعادة، فالصغير يتمنى أن يكبر، والشاب يحلم بالشهادة والوظيفة، ثم بالزوجة، ثم بالأولاد..فإذا تحقق له ما أراد تكالبت عليه المطالب ولا يكاد يخرج من محطة حتى يدخل أخرى تحمله الآمال إلى غاية لا تدرك بل ربما تكبد مشاق الحياة الواحدة تلو الأخرى حتى يجد نفسه وقد داهمته الشيخوخة وأمراضها وليس فى يده إلا قبض الريح..أما الفقير فيحلم بالثراء والسعة، والمريض يرجو الشفاء الذى هو إكسير الحياة بالنسبة له، فإذا أنعم الله عليه بالعافية والشفاء عاد أدراجه ونسى ما كان يدعو إليه، وترك نفسه على هواها، وشقى بغرائزه ونزغات شيطانه.. والغنى يحلم بمزيد من الغنى والثراء..وهكذا حال ابن آدم منذ خلق الله الدنيا، لو أُعطى واديًا من ذهب لتمنى أن يكون له الآخر ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب.. وفى سيرة الأنبياء ما يقرب هذه الحقيقة الناصعة إلى أذهاننا، وما يروى عن نبى الله عيسى عليه السلام من قصة «الرغيف الثالث» ما يجسد حقيقة الإنسان الذى تنازعه نفسه لامتلاك الدنيا، كل الدنيا، بأى وسيلة كانت، وتستهويه الأطماع والشهوات فيغرق فيها ظناً منه أن فيها نعيمه، ولا يدرى أنها الشقاء وطريقه للهاوية..فهل أخذ الأغنياء أموالهم وضياعهم معهم إلى قبورهم أم جمعوها من حلال أو من حرام، ثم تركوها ليتنعم بها غيره ثم يحاسب هو عليه لقول النبى الكريم: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ».
أما غلبة حب الشهوات على الإنسان فنجدها واضحة فى قول الله تعالى من سورة آل عمران:» زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ».
ولا عجب والحال هكذا أن يرسل الله الرسل للناس ليبينوا لها حقيقة الدنيا حتى لا يغتروا بمفاتنها، وحتى يصل المرء إلى السعادة الحقيقية التى يهبها الله لمن يشاء من عباده، وفقًا لما أمرهم به ونهاهم عنه وخلقهم من أجله «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير» (الملك: 14)ُ.
أما الدنيا فلا تساوى عند الله جناح بعوضة، ومن ثم فهى ليست غاية فى ذاتها وإنما قنطرة للآخرة..هى دار العمل والكد والتعب، «يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه».
وفى الحديث الشريف عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبى ، فقال : كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.. وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت ، فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك رواه البخاري.
والسؤال: هل استخدم الله عز وجل فى القرآن «لفظ» «سَعِد» ومشتقاتها صريحة لوصف حال أهل الدنيا، والجواب: أن القرآن الكريم يحدثنا عن السعادة التى ينشدها كل إنسان بألفاظ متعددة، ويربطها جميعها بالإيمان بالله الواحد.
فتارة يعبر عنها بالحياة الطيبة فيقول:(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَّيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(- النحل: 97.
وتارة يعبر عنها بانشراح الصدر، فيقول:(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ( الأنعام: 125.
وتارة يعبر عنها بطمأنينة القلب، فيقول: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ( الرعد: 28.
وتارة يعبر عنها بالسكينة، فيقول: (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ( الفتح: ٤.
أما لفظ «سعد» فلم يرد صراحة فى القرآن إلا لوصف حال أهل الجنة الذين فازوا بنعيمها المقيم ورضوان ربهم؛ فسعدوا سعادة حقيقية دائمة لا انقطاع غيها ولا منغصات ولا كربات ولا محن ولا ابتلاءات.. يقول الله تعالي: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) – هود:: 108… والمدهش أن القرآن استخدم لفظ «فرِح» تعبيرا عن حالة البهجة والسرور «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ».
والسؤال: هل وجد الصغير حين كبر سعادته، وهل وجد الشاب سعادته فى الوظيفة أو الزوجة أو امتلاك البيت أو السيارة أو المال أو غيره من زينة الحياة الدنيا..أم أن الإنسان كلما تقدم على طريق النجاح والشهرة والمال و المنصب ازداد قلقه على المستقبل وداهمته النزعات حتى ضاقت بها نفسه وشقيت بها حياته، لأن عرض الدنيا الزائل لا يشبع ما لم تكن هناك قناعة ورضا وفهم عميق لحكمة الخالق فى توزيع الأرزاق على الناس والغاية التى خلقنا الله من أجلها..وإذا أردت حقيقة الدنيا فاذهب لأقرب مستشفى وانظر لأصعب الحالات المرضية وأسأل كم أنعم الله بنعم لا تحصى ولا تعد، فذاك مريض يحتاج زراعة كبد أو رئة أو قلب بمئات الآلاف من الجنيهات..فكم تملك فى جسدك هذه من ملايين الجنيهات وحتى إذا امتلك هذا المريض أو ذاك أموالاً تغنيه وتحقق له المراد: فمن يضمن له الشفاء، والطب والدواء مجرد أسباب، من يضمن لجسد المريض الذى يحتاج مثلاً إلى زراعة «رئة» أن يتقبلها جسده ويتفاعل معها ولا يلفظها..ومن يضمن لجهاز مناعتك أن يعمل لصالح بدنك ولا يهاجم نفسه فيعمل مثلا على تكسير صفائحه الدموية التى لا يمكن للمرء أن يعيش بدونها..!!
الإنسان يشقى بسوء ظنونه وتقديراته، ويشقى بأطماعه وغرائزه، ويشقى بسوء تعامله من نعم ربه وجحوده لها..وإغفاله حقيقة الوجود والحياة..فهل فكرت يومًا أن الدنيا كمنزل بالإيجار مهما تظن أنك تملكها فأنت واهم لأنك ببساطة سوف تتركها يوماً ما دون أن تأخذ معك شيئًا للقبر، فهل تدبرت يوماً مقولة تتردد على الألسنة كثيرًا بأن «الكفن مالوش جيوب»..هل نفع قارون ما أوتى من مال كانت العصبة أولو القوة تنوء بمفاتحه.. مهما ملكت فى الدنيا فسوف تتركه لغيرك إلى دار القرار والمستقر إلى الآخرة التى هى الحياة الحقيقية يقول الله تعالي: « وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» «العنكبوت: 64.. .فهل بعد هذا كله نعود لنبحث عن سعادة وهمية فى لذة عابرة أو شهوة خاطفة أو نعيم زائل..؟!