شاهد على عصور التراجع والهوان.. وأيضاً.. زمان الطفرة الهائلة التى أشعلت حماس القارئ
أمضيت ومازلت متمسكا بدواليبها على مدى 68 عاماً متصلة
الآن.. تفتح لى الجمهورية صفحاتها لأكتب ما أشاء.. وأعبر عما يجيش فى صدرى من خواطر وآراء.. وملاحظات ومقترحات.. وأشهد بأننى أتمتع بحرية قد تكون غير مسبوقة فلا تغيير لكلمة ولا تعديل لعبارة ولا حتي إبداء ملاحظة.
وها هو ذا العمود الذى يحمل اسمى تنشره الجمهورية يومياً على صفحتها الأخيرة «خيوط الميزان» لكى يكون شاهداً على حرية الكلمة وشجاعة الرأى إقراراً بالتقدير والإعزاز لبانى الجمهورية الجديدة الذى نسهم معه جميعاً فى إعلاء صروحها الرئيس عبدالفتاح السيسى.
من هنا أحاطت أجواء الثورة قصة الجريدة المنتظرة وبالفعل أعلن عبدالناصر أنه لإصدار الجمهورية كى تؤدى الهدف المأمول وكى تحتل مكانتها فى عالم الصحافة والسياسة معا.
تعوَّد عبد الناصر بعد انتهاء عمل اليوم الذى يستغرق تقريبا كل وقته وفكره على أن يعود فى المساء ليلتقى بزميليه أنور السادات وعبد اللطيف بغدادى وفى التو واللحظة يتحدث السادات فى السياسة والفن والاقتصاد والاجتماع حتى يرفع عبد الناصر إصبعه ويقول: دعنى أحييك على إبداعك فى تلاوة بيان الثورة وبالفعل كان هذا البيان مثار إعجاب وتقدير غالبية المصريين والذى ربط بين ضباط الثورة وبينهم بالحب والمودة المبجلة.
>>>
هكذا جاء ميلاد الجمهورية التى أرادها عبدالناصر حتى قبل خروجها للحياة وفى سبيلها واصل الليل بالنهار حتى تصدر بالصورة التى يتمناها.
فى يوم أول نوفمبر عام 1952 سأل عبد الناصر بعد أن تناول سندوتش فول من معه منكم فلوس؟!
رد كل من عبد الحكيم عامر وزكريا محيى الدين وخالد محيى الدين وعبداللطيف بغدادي:
كم من الفلوس معكم؟
نحن نملك الآن ما يقـرب من 1180 جنيها !
ارتفع صوت عبد الناصر :
هائل.. هائل..!
إنه مبلغ يكفى وربما يزيد!
ثم.. ثم.. مال عبد الناصر على كتف أحد مرافقيه والذى قيل عنه إنه تاجر ورق شهير الذى بدت على وجهه علامات السعادة والسرور وقال: البضاعة جاهزة.. وبالمجان ورفض الرجل تقاضى أية مبالغ.
>>>
من هنا.. عندما دارت ماكينة الطباعة يوم 7 ديسمبر عام 1953 كانت فرحة عبد الناصر لا تقدر بثمن فقد شعر فى قرارة نفسه بأن الثورة قد ملَّكته ذراعا قويا من أذرع الحق والعدل ممثلة فى جريدة الجمهورية التى ضمت وقتئذ أشهر الصحفيين والكتَّاب من أول عميد الأدب العربى د.طه حسين وأحمد قاسم جودة وإسماعيل الحبروك وعميد الإمام وسامى داوود وهذان بالذات عهد لهما بمهمة إصدار الجمهورية فنيا وطباعيا وصحفيا نظرا لخبرتهما فى ذلك..ثم..ثم.. سرعان ما انضم إليهما آخرون مثل سامى جوهر وإبراهيم نوار وشقيقه.
>>>
هنا جذبت الجمهورية شباب مصر وشاباتها وأيضا رجالها وشيوخها وطبعا كنت أنا واحدا من هؤلاء وإن كنت أختلف بعض الشيء فقد كنت وقتئذ فى السنة الثالثة الثانوية وكان عشقى للصحافة كبيرا .. كبيرا وكم تمنيت أن انضم إلى بلاطة من بلاطها حتى حانت الفرصة المرتقبة.
>>>
وبلغت غرفة المحررين المسئولين هكذا كان اسمهم فى ذلك الوقت.. وهم المسئولون عن إعداد وترتيب إعادة الصحيفة ثم توضيبها ثم الدفع بها إلى المطبعة التى تصدر فى كبرياء وشمم تتحدث عن المصريين فى عهدهم الجديد.
.. يمكنك مقابلة الأستاذ عميد الإمام وأشهد بأن الرجل كان فى منتهى الرقة والخلق الكريم وإن جاءت حكاية رغبتى فى العمل بالصحافة.
> لماذا تريد العمل فى الصحافة.. هل أنت تقدر على تحمل متاعبها؟
لم أرد.. لكنه هو الذى استطرد
> عموما.. أنا نصحتك فإذا كنت مازلت مُصرا فيمكنك المرور علينا غدا فى نفس الموعد.
>>>
ذهبت فى الصباح فى الموعد الذى حدده الأستاذ عميد وبدأت أنخرط فى العمل.. توضيب الصفحات والمساعدة فى رسم الماكيتات واعترف بأننى بعد أن كنت مولعا بالعمل فى الصحافة بقدر ما وجدت هذا الحب يفتر بل يكاد يتبدد فى الهواء.. ومع ذلك قررت التحمل إلى أقصى درجة حتى حدث ما لم يكن متوقعا..
لقد جاء قرار من جهة عليا كما قالوا يقضى بتسريح جميع المحررين تحت التمرين وعدم دخولهم فى الجريدة اعتبارا من بعد غد..
هنا.. ازدادت حيرتي.. لكن استدعانى الأستاذ عميد وقال لى أناأستشعر أنك حزين فى قرارة نفسك لكنى أقترح عليك اقتراحا..مع إلغاء تدريب الصحفيين سوف يتم تعيين عدد من الموظفين فى الحسابات وشئون العاملين ..و.. والأرشيف..فهل توافق على أن تعمل فى أى قسم من هذه الأقسام؟!
صمت.. ولم أعلق حتى وجدت نفسى من جديد موظفا فى الارشيف بمرتب قدره تسعة جنيهات و46 قرشا وأربعة مليمات.
والحمد لله لقد فتح لى الأرشيف أوسع أبواب العمل بالصحافة .. فقد أطلعت أسماء زعماء العالم..وقضايا الدنيا شرقا وغربا وأنواع الحكم..و.. حتى وصلت محطة جديدة حاسمة من محطات معشوقتى الصحافة.
>>>
لقد اختارنى سعد الدين وهبة الذى كان يعمل مديرا للتحرير فى ذلك الوقت للعمل مندوبا بمطار القاهرة لتتطور حياتى أكثر وأكثر بعد أن صنعت من أخبار المطار نوعا من الصحافة الجديدة فى مصر بالاشتراك مع زميلى العزيز المرحوم جلال دويدار والمرحوم عادل عامر المحرر بالأهرام ومحيى السمرى محرر المساء داعيا له بالصحة والعافية..
كل ذلك والجمهورية فى صعود تارة وهبوط تارة أخرى وكل ذلك وفقا لمزاج النظام.. فإذا أزيح برئيس تحرير ليحل محله مشرف عام مثل على صبرى أمين عام الاتحاد الاشتراكى ليتولى عمل رئيس التحرير ووسط هذه الأزمات لم يغضب أبدا عبد الناصر من الجمهورية كصحيفة أو ابنة عزيزة من بنات ثورة يوليو وبالتالى سرعان ما تترطب الأجواء ويقرر عبد الناصر إصدار جريدة مسائية تساند الجمهورية الصباحية فى الترويج لمبادئ الثورة وقياداتها ومشروعاتها المستقبلية بالفعل صدرت جريدة المساء برئاسة عضو مجلس الثورة القوى خالد محيى الدين الذى استخدمها لمصلحة اليسار التى فتحت أبوابها لأى كاتب ونجحت الفكرة وإن شاء الله ستكون المساء محل دراسة قادمة.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإن أية صحيفة تصدر لابد أن تتأثر حولها الصحف الأخرى إما بزيادة أعداد النسخ الموزعة أو انخفاضها ولكن عموما التوزيع يزيد ثم ينخفض ويستمر فى الانخفاض وشاءت الجمهورية أن يقف فى طريقها صحفى متمكن وثيق الصلة برئيس الدولة هو الأستاذ محمد حسنين هيكل وشاء قدرى أننى كنت أخطو أهم درجات السلم الصحفى وبالتحديد عام 1960 عندما كنت محررا لشئون الطيران والأستاذ هيكل الذى لا يقاوم.. وكم كنت أتألم وأتعجب فى آن واحد عندما أحصل على خبر مهم بل بالغ الأهمية ثم أفاجأ بعدم نشره فى الوقت الذى ينشره الأهرام على خمسة أو ستة عمود على الصفحة الأولى والسبب مجاملة هيكل وإظهاره على أنه وحده صاحب الانفرادات ..بصراحة هذه الظاهرة الفريدة أخذت تطاردنى حتى خروج هيكل من الأهرام وإذا كان القياس مع الفارق فإن وجود يوسف السباعى على رأس مؤسسة الأهرام.. أتاح لها فرصا عديدة لزيادة التوزيع وارتفاع حجم الإعلانات وأن تصبح مؤثرة فى مسيرة الحياة السياسية والاقتصادية فى مصر.. بينما أنا المحرر الشاب المجتهد لا أثير شفقة الكبار بل وحتى الصغار.
وهذه إرادة الله سبحانه وتعالى لتظل الجمهورية بصفة عامة تكافح من أجل البقاء حتى جاء زورق الإنقاذ متمثلاً فى الراحل الأستاذ محسن محمد رئيسا لتحريرها فى مارس عام 1975 ليحدث بها نقلة نوعية غير مسبوقة حيث فاق توزيعها مرات ومرات ولأول مرة تجاوز التوزيع أكثر من نصف مليون نسخة يوميا.. قبل أن يأتى يوم يقفز فيه هذا الرقم إلى المليون بالتمام و الكمال.
>>>
فى النهاية تبقى كلمة:
ليست كل جريدة أو مجلة أو مطبوعة من أى شكل أو نوع تتأثر بتغير المناخ الصحفى أى تعديل مسار العمل الصحفى لكن الجمهورية غيَّرت وجددت وتميزت بفضل رجال مخلصين يشار إليهم بالبنان وخالص تهانينا للمهندس طارق لطفى رئيس مجلس الإدارة والأستاذ أحمد أيوب رئيس التحرير.