منذ ان شرفت بالالتحاق بأسرة الجمهورية متدرباً فى نوفمبر 1958 عقب شهور قليلة من بدء دراستى الجامعية فى قسم الصحافة والترجمة والنشر بجامعة القاهرة العريقة.. ادركت اننى سعيد الحظ بالتواجد وسط هذا الصرح الصحفى الشامخ والقلعة المضيئة للتنوير.. بالإضافة لدراستى المناهج الجامعية على يد أساتذة أفاضل مثل د. عبداللطيف حمزة.. ود. إبراهيم رزقان.. ود. مصطفى الخشاب.. ود. سهير القلماوى.. ود. أمين العيوطى.. ود. إبراهيم إمام.. ود. حسين عبدالقادر.. ود. كامل جمال.. ود.رفعت المحجوب ود. عائشة راتب ود. مفيد شهاب.. وبعضهم ارتقوا فى الحرم الجامعى إلى أعلى مسئوليات الوطن وزراء وتشريعيين.. معهم تتلمذت وتعلمت فنون الصحافة والكتابة وسبل مخاطبة الرأى العام.. ومسئولية الكلمة أولئك هم المبدعون الكبار الذين شاركوا فى بناء منظومة إعلامية شامخة.. تتمثل فى جريدة الجمهورية صوت الشعب الأمين.. والدرة المضيئة فى مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر.. يكفى أن رخصة تشغيلها صدرت باسم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. وتولى الاشراف على تأسيسها وتحديد مسارات عملها وملامح انطلاقتها المرحوم الرئيس محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام.
فى هذا المناخ.. وحيث كانت الجريدة حديثة العهد بمقرها 24 شارع زكريا أحمد المتفرع من الشارع التاريخى عماد الدين وظللت متمسكاً بالعمل بها.. بعد ان انتقلت المؤسسة إلى مبناها الشامخ بشارع رمسيس.. وحتى الآن.. بعد سنوات من دخول العقد الثامن مواظباً على الحضور.. ومشاركة الزملاء بأجيالهم المتتابعة فى العمل بديسك الجريدة.. وعقلها المفكر المسئول عن المواد الصحفية من الزملاء وجمعها فى بوتقة متناسقة رشيقة.. اعداد مطبوعة ينتظرها القراء فى كل مكان.
ومن 66 عاماً من عمرى.. امضيتها فى بيتى الأول.. أتحدث فى لمحات سريعة عن بعض هؤلاء المبدعين.. الذين كانوا فى عملهم وابداعهم وانتاجهم قمة شامخة وقدوة جميلة لكل الأجيال.. ابدأ بالاستاذين أحمد قاسم جودة وحسين فهمى أول رئيسين للتحرير شعرت منذ البداية بالأسس الإيجابية التى وضعاها لتكون الجمهورية منارة ورسول حضارة وحارساً لمبادئ ثورة يوليو المجيدة.. ثم يأتى الحديث عن عميد الأدب العربى د. طه حسين الذى تصدر اسمه ترويسة رؤساء التحرير فى مرحلة مهمة.. واستفدنا جميعاً من عطائه واهتمامه وابداعاته.. وتعلمنا منه التواضع الكريم.
وفى هذه المرحلة تصدت الجمهورية للدفاع عن المفكر الأديب الفيلسوق توفيق الحكيم عندما تعرض لحملة شعواء.. تتهمه باقتباس كتابه الشهير «حمار الحكيم» وبعدها كرمته الدولة بجائزة رفيعة.. لتؤكد نجاح حملة الجمهورية.. وهو الرجل الذى كان كتابه «عودة الروح» ارهاصا بقيام الثورة العظيمة ومن هؤلاء المبدعين أيضاً.. وعذراً لعدم ترتيب المراحل الزمنية التى عملوا خلالها بالجمهورية.. ليس فقط لأنها متقاربة ولكن لأنها جميعاً كانت إيجابية التقت فى منظومة قوية شامخة.. تفخر بها الصحافة المصرية.. وكانت رائدة على خطاها مشت مؤسسات واصدارات أخرى حتى وقت قريب.
اتحدث عن كامل الشناوى رئيس التحرير الشاعر امام المتحدثين حول مكتبه بالدور الثانى بالمبنى القديم إلى صالون أدبى وفكرى لكبار المبدعين والنجوم.. يلتقون فيه بعد صدور الجريدة ليلاً وحتى الفجر.. يتناقشون ويقترحون ويتذكرون.. ونظل نحن القادمين الجدد ننتظرهم بشوق بالغ ونتعلم منهم الكثير.. ولأن الشىء بالشىء يذكر نتحدث عن شقيقه مأمون الشناوى شاعر الأغانى الكبير.. وصاحب تجربة مثمرة مبكرة فى التعامل مع رسائل القراء.
نتحدث أيضاً عن اسماعيل المبروك.. من أصغر رؤساء التحرير الذى كان عبقرياً فى العمل الصحفى والابداع الشعرى معاً.. صاحب سلوك طيب وأخلاق كريمة.. لكنه للأسف لم يستمر طولاً.. لأن المنية وافته فى عز الشباب.. واتحدث عن الشاعر العملاق عبدالرحمن الشرقاوى.. صاحب الملاحم الكبرى التى تؤرخ لأحداث وشخصيات الوطن والأمة العربية والإسلامية.. صاغها مسرحيات شعرية.. رحب بها المسرح القومى ونفدت طبعاتها ككتب مطبوعة.. ومن منا لم يتعلم من الحسين شهيداً أو الفتى مهران.. وكنا نتحدث فى مجلسنا كيف انفرد الشرقاوى بهذا ا لابداع الشعرى الحديث الذى فتح الباب لمدارس حررت الشعر من القيود التقليدية وأصبحت منهاجاً يحتذى.. بينما شقيقه د. عبدالحى الشرقاوى كان جراحاً نابغة فى علاج العظام.
ومع الشرقاوى استضافت الجمهورية أيضاً.. مسئولاً فى الملحق الأدبى الشاعر الفنان عبدالرحمن الخميسى.. مكتشف العديد من المبدعين فى الأدب والتمثيل وكان شاعراً ثائراً.. صاحب قدرة فائقة على حشد الجماهير.. ووهب حياته للفن والسفر واعترفنا جميعاً بمكانته وموهبته التى لا تقل عن شكسبير.. كما كان له فيما أعلم أعمال قصصية بأسلوب فريد.
ونأتى للحديث عن الكاتب والقاص القدير فتحى غانم خريج الحقوق الذى جاء من مؤسسة روز اليوسف العريقة.. رئيساً للتحرير واهتم بتطوير أبواب وصفحات الجريدة وتحديث مسارها بالاعتماد على الشباب وفى نفس الوقت كتب روايات رائعة.. تحولت إلى أفلام ومسرحيات فى معظمها.. يتصدرها زينب والعرش والرجل الذى فقد ظله.
وعلى نفس الطريق.. نتحدث بسرعة عن يوسف إدريس.. عملاق القصة القصيرة والرواية.. خريج الطب الذى لجأ بموهبته إلى الصحافة باعتبارها المناخ الصحى للابداع.. لبس البالطو الأبيض والسماعة وتفرغ منذ اللحظة الأولى لميدان القصة.. فارساً.. مطوراً.. مجدداً.. مبدعاً.. لا يشق له غبار.. وخلال سنوات قليلة ومن خلال ما نشره فى الجمهورية لسنوات أصبح صاحب مدرسة أدبية.. مازالت تعيش بيننا حتى الآن.. من منا ينسى على سبيل المثال.. جمهورية فرحات.. أو قصة حب.. أو البيضاء.. الخ.. كان صريحاً فى الكلمات.. حول مشرط الجراح إلى قلم مبدع وواع.
أما سعد الدين وهبة مدير التحرير القادم من الشرطة.. ضابطاً تكونت علاقته بالصحافة من خلال مجلة «البوليس» وانتقل من الجمهورية مسئولاً عن مؤسسة السينما بالقطاع العام.. على المستوى الأدبى والفنى عرف سعد بمسرحيات عديدة.. سكة السلامة والسبنسة والمحروسة وكوبرى الناموس.. وخلال رئاسته مؤسسة السينما بالتعاون مع الأديب الكبير صاحب نوبل نجيب محفوظ انتج للقطاع العام.. أفلاماً رائعة بامكانيات مبهرة.. مازالت تعيش بيننا حتى الآن.
أما نعمان عاشور.. فهو صوت البسطاء والطبقات المكافحة.. كما قالت أعماله.. التى كتبها خلال عمله ضمن كتيبة الأداء بالجمهورية واذكر منها الناس اللى فوق.. والناس اللى تحت.. وعطوة قطاع عام.. وغيرها من المسرحيات التى تلقفها المسرح القومى والمسرح الحديث.. وقد عرفت الأستاذ نعمان إنساناً بسيطاً متواضعاً يجيد الانصات والتعامل مع الأحداث.
ويتقرب منه فى التعامل مع الموهبة.. إبراهيم الوردانى ابن المنوفية القادم للمدينة لاستكمال رحلة التعليم.. فتفجرت ينابيع الابداع فى عقله وقلبه وقلمه من خلال العامود اليومى المبتكر صواريخ الذى كان بحق واحة للقراء.. وانفرد الوردانى من خلاله بشخصية واعية ناجحة فى التعامل مع الناس كان يحمل مظهر الفلاح الفصيح.. واجتذبته السينما وقدم لها عدداً من قصص الأفلام والسيناريوهات.
ونصل إلى الشاعر وكاتب الأغانى.. والمشرف بعض الوقت على الإذاعة المصرية عبدالمنعم السباعى.. الذى فضل لسنوات طويلة الاشراف على باب «عزيزى القارئ» أعلى الصفحة قبل الأخيرة.. وكنا فى التحقيقات الصحفية نلجأ إليه.. مصدراً لأفكار تحقيقات صحفية ميدانية من مشكلات حقيقية أشار إليها القراء.
ولا ننسى الشاعر الكبير مصطفى بهجت بدوى شاعر الشعب والقلم الذى كان نموذجاً للعطاء والإنسانية وجمع الشمل أثناء قيادته لمؤسسة دار التحرير ورئاسة تحرير الجمهورية.. واهتم بالشأن الثقافى والموضوعات الإنسانية وكان متواضعاً راعياً للمواهب الشابة فى الجريدة والمؤسسة.
وهناك القاص الكبير سعد مكاوى.. الذى غرد بالقلم فى صياغة التاريخ بشكل ملاحم روائية.. أثارت الاعجاب والصدى الطيب فى الأوساط الأدبية وبين الرأى العام.. ومنها «السائرون نياماً» التى قيمت بموضوعية وتجرد العصر المملوكى.. وعمل بالجمهورية لفترة من الوقت فى القسمين الأدبى والفنى الكاتب الراحل خيرى شلبى.. القادم من الريف ناقلاً معه رؤى غير مسبوقة لتقاليد الريف وسلوكيات الفلاحين.. تجاه الأزمات الكبرى ومنها رواية الوتد.. التى تناول فيها فترة الاصابة بالكوليرا.
وفى سجل الشرف تضىء اسماء واسماء.. بمبدعين راحلين فى السياسة والفن والاقتصاد والرسم.. حققوا مكانة متميزة فى السجل الذهبى.. منهم صلاح سالم رئيس مجلس الادارة الذى قدم للجمهورية والمؤسسة كل الدعم وفتح أبوابها للاسماء اللامعة والواعدة فى الوسط الصحفى والثقافى.. ووفر لهم مناخاً رائعاً للابداع.. أصبح سنة فى مؤسسات شقيقة بعد ذلك.. هناك محسن محمد القادم من أخبار اليوم رئيساً للتحرير ولمجلس الادارة ليحدث طفرة ملموسة دخلت بها مصر صحافة الملايين.. وأضاف للجمهورية كل ما يمكن من أبواب تجذب وتعبر عن اهتمامات الجميع.. بسطاء وأغنياء.. فى تجربة مهمة اثارت انتباه الباحثين الجامعيين فى مجال الصحافة والإعلام.
لا ننسى الأستاذ إبراهيم نوار رئيس التحرير الخلوق الذى جمع بين فن الاخراج الصحفى والكتابة البسيطة المفيدة والترجمة الأمينة من الملفات العالمية.. كان أباً وأخاً وصديقاً بابه مفتوح للجميع.. تبنى بحب المواهب الشابة.. ولا ننسى القلعة الشامخة متعدد المواهب عبدالرحمن فهمى.. عاشق المهنة.. برع فى الصحافة الرياضية.. وترجمة فريدة للأعمال الأدبية العالمية نشرها على ملفات.. إضافة إلى صحافة المنوعات.. وأضاف الكثير للتغطية الرياضية.. وظل يكتب عاموداً يومياً متنوعاً حتى رحيله منذ فترة قريبة.. ونذكر اسمه مقروناً دائماً بصديق عمره ناصف سليم وتنافسهما الشريف فى دعم الصحافة الرياضية..
ولا ننسى الرسامين أحمد طوغان فنان الكاريكاتير السياسى المجاهد ضد الاستعمار فى مصر والجزائر.. كان يملك قلباً شجاعاً محباً للناس وعزيمة تجسد الانتماء للوطن.. وزميله الفنان العظيم عبدالسميع صاحب المدرسة المتميزة فى الكاريكاتير.. وتبنى المبدعين من الشباب مثل نبيل السلمى وماهر داوود اللذين دخلت رسوماتهما مرحلة العالمية عقب عدوان 1967.
فى الشئون السياسة والعربية.. برز الأساتذة ناصر الدين النشاشيبى وسامى داوود وعميد الإمام.. والجهد المشكور للدكتور محمد أنيس المؤرخ المعروف وكان الأستاذ محمد العزبى ومازال نموذجاً للصحفى المتكامل الموضوعى الذى يعالج الأمور الصعبة بصدق واخلاص.. رائداً وقمة شامخة تتعلم منه الأجيال.
الأسماء كثيرة.. والعديد منهم عملوا وراء الستار فى أقسام المراجعة والديسك والتصوير وسكرتارية التحرير.. وعذراً لضيق المساحة.. والسهو والنسيان.. وكل عام والجمهورية الغالية مهما مضى العمر.. شابة متألقة.. قلعة شامخة.. مفتوحة دائماً للمبدعين من كل الأجيال.