قبل سنوات لا أذكر عددها.. أجريت تحقيقا صحفيا حول الواقع المؤلم لمهنة التمريض فى معظم المجتمعات العربية وكيف أن هذه المهنة الرائعة تراوح مكانها عندنا فيما تنطلق إلى آفاق التقدم ويحظى منتسبوها بنفس مكانة الأطباء فى المنظومة الصحية للدول المتقدمة.. وكان المحور الرئيسى فى هذا التحقيق هو سر عزوف الفتيات عن الالتحاق بمعاهد أو كليات التمريض وممارسة هذه المهنة فى منشآتها الصحية، حتى أن معظم المستشفيات العامة والخاصة والمراكز الطبية والعيادات التخصصية تعانى من عجز شديد فى الكوادر التمريضية.
وأذكر أن أحاديث المسئولين الذين التقيت بهم تطرقت إلى الكثير من أسباب هذا العزوف ليس فقط فى المجتمع المحلى بل أيضا فى معظم المجتمعات العربية، ومنها الصورة غير الواقعية وغير المنصفة للممرضة العربية فى أفلامنا ومسلسلاتنا الدرامية العربية، فهى الإنسانة التى لا تفعل شيئا تقريبا سوى محاولة الإيقاع بالمرضى الأثرياء أو الوقوع فى غرام الأطباء، وهى التى لا تقدم للمرضى أكثر من وجبات الطعام، وفى أفضل الأحوال قد لا يزيد دورها على إعطاء المريض «حقنة» بأمر الطبيب.. باختصار نسبة كبيرة من افلامنا ومسلسلاتنا تظهر الممرضة بلا دور ولا فائدة.
قائمة المتاعب والمعاناة المهنية شملت كذلك الوضع المالى والوظيفى غير المنصف للعاملات فى هذه المهنة، على الرغم من أن رواتب الممرضات فى بعض التخصصات النادرة بدول أوروبا وأمريكا والعديد من الدول الآسيوية تزيد على رواتب الأطباء، وعلى سبيل المثال فإن الوضع الوظيفى للممرضة المتخصصة فى العناية المركزة لمرضى جراحات القلب المفتوح لا يقل عن الوضع الوظيفى للأطباء العاملين فى نفس التخصص، وباختصار استعرض التحقيق الكثير من الأوضاع غير المشجعة والظروف غير المواتية والتى تجعل الانتساب إلى مهنة التمريض غير مرغوب بالقدر الكافى بالإضافة إلى الكثير من الأوضاع والمشاكل الأخرى التى ساهمت فى تفاقم ظاهرة العزوف.
ولكن ما لفت نظرى خلال هذا التحقيق هو ما جاء على لسان إحدى الممرضات وهى تصف الواقع المؤلم للمهنة، فالممرضة تتعرض لضغوط نفسية يومية ومستمرة بسبب التواجد بين المرضى.. إحساس جميل أن تمد يد العون والمساعدة للمريض، ولكن ليس سهلا أن تتواجد دائما ولفترات طويلة بين المرضى، أن تعايش المرض طوال الوقت، وألا تسمع أذنيك سوى الأنين، أن تشاهد لساعات طويلة كل يوم شحوب الوجوه وعلامات الخوف والقلق والمعاناة.. فالممرضة تبقى مع المرضى لاكثر من 8 ساعات يوميا بينما يبقى الطبيب دون التقليل من دوره سوى دقائق.. فإذا أضفنا إلى كل ذلك أن الممرضة لا تعرف الاستقرار فى حياتها أبدا، فهى لابد أن تأخذ نصيبها من السهر الليلى، ولابد أن تخضع لنظام مناوبات صارم فى الدوام… أسبوع تعمل خلاله فى الصباح، وأسبوع من فترة الظهيرة وحتى الليل، وثالث تسهر خلاله حتى الصباح، تصبح مهنة التمريض بحق أكثر المهن الإنسانية صعوبة، وتستحق كل من تمارسها وسام العطاء، تستحق أن نحيطها بكل مظاهر التكريم، أن نقدم لها ما تستحق من الشكر ومشاعر العرفان.. فالممرضة المخلصة فى عملها المتفانية فى أداء رسالتها الإنسانية القادرة على غرس الأمل فى نفوس المرضى هى بكل تأكيد عملة نادرة نفيسة ثمينة.