شيء جيد أن يكون اهتمام الدولة بالتعليم وتطويره هو همها وشاغلها على مر العقود وتوالى الحكومات.. فهذا أمر محمود ومشكور عليه فى ظل السباق العالمى نحو التقدم والرقى واستخدام العلم والتكنولوجيا ركيزة أساسية لتحقيق هذا الهدف القومى المنشود.
ولكن الذى لا يقل عن ذلك أهمية، هو استدامة المنظومة التعليمية لمدة مناسبة لتخريج جيل كامل أو جيلين على الأقل فى فترة أتصورها لا تقل عن 25 عاماً يكون لها مردودها الإيجابى فى تحقيق الأهداف المرجوة، وفى نفس الوقت الحفاظ على الاستقرار المجتمعى الذى تتعايش معه الأسرة باعتبار أن هذا التعليم هو الضمانة لمستقبل الأبناء فلذات الأكباد، وأن شعورهم بأنه يحقق لهم الآمال المرجوة يجعل المجتمع ككل يؤمن بالعلم والتعليم كهدف ثمين يجب الحفاظ عليه والتمسك به.
لعل هذه المقدمة هى مدخل للحديث عن الحراك السريع الذى لاحظناه مع التغيير الذى حدث مؤخراً فى حقيبة وزارة التعليم والتعليم الفني، الذى بدأ أولاً بتغيير جذرى فى مواد دراسية كانت أساسية تضاف إلى المجموع الكلى لدرجات الطلاب فى امتحاناتهم السنوية وتم تهميشها لتكون مجرد مادة تُدرس أو لا تُدرس.. ودعونا نتحدث بصراحة وقد يدخل الأمر فى إطار إرضاء مجتمع أولياء الأمور من أصحاب الصوت العالى وصراخ «الماميز»، الذين يتدخلون أحياناً فى تسيير منظومة التعليم.. وأتصور أن هذا لا يليق فى دولة كبرى يُنظر إليها باحترام وتقدير شديد مثل مصر، التى كانت على مر التاريخ قدوة ومثلاً أعلى يحتذى به فى كثير من المجالات.
>>>
تأتى هذه البكالوريا الجديدة لتضاف إلى العديد من التجارب التى مررنا بها فى عملية تطوير التعليم خلال النصف قرن الأخير، التى انتهت بخروج الدكتور مصطفى كمال حلمى ومن بعده الدكتور فتحى سرور، لندخل بعد ذلك فى تجارب وزراء عديدين وتغيير متتابع فى مناهج وفترات وسنوات التعليم الأساسي.
>>>
بالتأكيد، أن الناس تقدر علم وخبرة هؤلاء المسئولين عن تسيير منظومة التعليم فى بلدنا.. ولكن كان من المهم الحفاظ على استمرارية مجلس أو هيئة عليا للتعليم تضع الأهداف والبرامج المرجوة للتعليم كهدف قومي، وأظن أن هذه الهيئة كانت موجودة فى أوائل الألفية الجديدة، وكانت فى وقت وزيرى التعليم العالى والتربية والتعليم هانى هلال ويسرى الجمل.
أتصور أنه فى ظل مقترح البكالوريا الجديدة وكذلك عودة الكتاتيب، فإن الأمر وكما وجه الرئيس عبدالفتاح السيسى يحتاج دراسات جدوى مستفيضة، بحيث يحدث قناعة مجتمعية يضعها خبراء التربية والتعليم فى المقام الأول، ولا مانع أن يشارك المجتمع والرأى العام من خلال نواب البرلمان والحوار الوطني.. ولكن المطلوب أن يحدث استدامة واستقرار فى العملية التعليمية وربطها بسوق العمل، خاصة أن الناس أصبحوا مهيئين للتوافق مع احتياجات المجتمع من الخريجين، لاسيما أن هناك تجارب عديدة بدأت خلال السنوات الماضية بالاستعانة بجامعات عالمية قامت بتوأمة مع بعض الجامعات المصرية الجديدة.
كذلك استفادت الدولة من خلال اتفاقيات مع دول مثل ألمانيا وايطاليا واليابان بإنشاء مدارس على شاكلة المدارس فى تلك الدول.. ولكن يبقى من المهم أن يتم تعميم التجارب الناجحة لتتوافق مع الهوية المصرية الوطنية، وتكون متاحة لعموم الناس وقدراتهم المادية للالتحاق بها، ولا تكون مقصورة لفئة معينة من المجتمع.
أذكر على سبيل المثال، مدارس «الدون بوسكو» الايطالية، فهى نموذج جيد للتعليم الفنى الذى يمكن استنساخه فى المدارس الحكومية التى تبدأ مع مرحلة التعليم الأساسي، ولا ننتظر حتى يتعثر التلاميذ فى التعليم العام، فيفكر أولياء الأمور فى التعليم الفنى أو الورش فى الأحياء والقرى لتعليم الأبناء «صنعة».. وليت ذلك يحدث مع إغراء الاستسهال بالتربح من «التوك توك» أو «الدليفرى».