الليلة هي ليلة السابع والعشرين من رمضان المبارك، وقد تكون هي ليلة القدر، وهي من أعظم الليالي، قال تعالى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»، وهي ليلة مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ، وينبغي للمسلم الحريص على طاعة الله أن يقوم هذه الليلة إيمانًا بها، وطمعًا في أجرها العظيم، فيا رب بلغنا ليلة القدر، ولا تحرِمنا نورها، وبركتها، وأجرها، وعتقها، واجعل لنا فيها دعوة لا ترد، وافتَح لنا فيها بابًا إلى الجنة لا يسد، واكتبنا فيها من عتقائك من النار، ووالدينا، وكل من نحب والمسلمين أجمعين يا رب العالمين.
علاماتها
أبرز العلامات الدالّة عليها:
طلوع الشمس دون شعاعٍ صباح اليوم التالي لها
اعتدال الجوّ فيها؛ فلا يُوصف بالحرارة، أو البرودة
يتميز ليلها بالنقاء والصفاء؛ كأن فيه قمراً ساطعاً
الفوز بالكنز
حدد العلماء والعارفون مسالك الوصول لمكسبة الرضا الإلهي والعطاء الرباني في ليلة القدر، ووضعوا تجربتهم أمام السائرين بعدهم ليهتدوا إلى الخير الذي يفيض الله به على عباده في تلك الليلة المباركة، ومن سبل الفوز:
> تطهير الظاهر والباطن بالتوبة والإنابة الى الله تعالى
> الدعاء عند غروب شمس ليلتها بسؤال العون الإلهي على قيامها، وتجهيز صدقتك لهذه الليلة، فلا يفتر لسانك من دعاء «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»، خاصة في الثلث الأخير من ليلها.
> حافظ على صلاة العشاء والفجر جماعة، ولا تفوتك صلاةُ التراويح، وصلاة القيام، فمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ
> تفرغ للعبادة من غروب الشمس الى الفجر لأنها ليلة القرآن، والدعاء، والصلاة، والاستغفار، فالعَمَلُ الصالح فيها خيرٌ مِنَ العَمَلِ في ألفِ شَهرٍ، فمحروم من فرّط في ليلة القدر ليلة العزِّ، ليلة الكنز، ليلة الفوز.
> التوبة النصوح بشروطها في الندم والإقلاع والعزم ورد المظالم والحقوق لأصحابها وطلب المسامحة ممن ظلمهم في أموالهم وأغراضهم أو في شرفهم وأعراضهم.
> الإكثار من الصلاة والسلام على الرسول – فإن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه عشرا؛ ليخرجك الله بها من الظلمات إلى النور.
لا تيأس من الوصول
لا تيأس في تلك الليلة من طلب الوصول والبحث عن المأمول، وتحري الصالحين وطريقهم، وتيقن أن الأرض لا تخلو من أرباب القلوب والعقول والسلوك، ومن أرادهم وجدهم، فهم كالضوء في الليالي الظلماء يهتدي بهم من ضل سعيهم في الحياة الدنيا، فتُبْ إلى الله تعالى، وأكثر في تلك الليلة من البكاء على خطيئتَك، وسارع بإعلان الندم، فالندم توبة، وعلِّم قلبَك الخشوعَ، وعينَك الدموعَ، واجعل لسانك رطبًا بذكر الله، ولا تَنقطِعْ عن مهامِّك في تعمير الكون، ولا تنسحب إلى العزلة، فمقاومة النفس أحد أركان الثبات بعد الوصول، وليكن عملك مُثْمِرٌاً، وذكرك مستمرٌ، وإبداعك متفنِّنٌا، وابتكارك نافعاً؛ حتى يكونَ الدينُ كلُّه لله، وإذا استشعرت رقة قلبك وليونته للحق وخشوعه للصدق ستذوق طعمَ العِبادة وحَلاوتها، وستدرك جمال القدر في ليلة القدر.
سبب إخفائها
سبب إخفاء ليلة القَدْر، وعدم تحديدها؛ لتحفيز العباد على الاستمرار والمداومة على العبادة، والمثابرة عليها، والمبالغة فيها طوال العشر الأخيرة من رمضان، وعدم الإهمال في العبادات والطاعات، والبحث عنها وتحرّيها في الليالي العشر الأخيرة وقيامها، والمواظبة على ذِكْر الله، والدعاء، والصلاة، وقراءة القرآن، وبذلك يُشغل العبد نفسه ووقته بطاعة الله تعالى والأعمال الصالحة، سائلا ربه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، راجيا مولاه العِتق من النيران، مكثرا من الدعاء فأوقاتها استجابة، والفائزون فيها من وصلوا مقام الرضا والمنزلة الرفيعة.
أسماء ليلة الشرف
اختصّ الله ليلة القدر بالعديد من الأسماء، كتسميتها بليلة الحُكم؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يَحكم فيها ما يشاء من أمور العباد خلال العام، لقوله تعالى: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» فالله تعالى قدّرَ أعمال العباد قبل أن يخلقهم، وهو يُعطي الملائكة في تلك الليلة من اللوح المحفوظ ما يكون خلال العام من أقدار العباد؛ وفيها يُفرقَ كُلّ أمر؛ سواءً من حيث الرزق أو الأجل أو غير ذلك؛ ولذلك تُسمّى أيضاً بليلة الأقدار، وتُسمّى بالليلة المُباركة؛ لأنّ الله يُنزل فيها البركات على عباده، لكثرة ما يُؤدّي القائمون فيها من العبادات.
خير من ألف شهر
ما أجمل أن تتزين السماء والأرض للصائمين في ليلة من أجمل ليالي رمضان، وما أعظم الباحثين عنها حين تصيب دعواتهم فيها ساعة إجابة، وما أكثر نزول دموع التائبين فيها صدقًا، ففيها يُعطي الكريم بصدق لجوء العباد إليه، وفيها تُغسل القلوب، وتنهمر الدموع، رجاء أن يكونوا من الفائزين.
إنها ليلة السعادة وتحقيق الأمنيات، والعفو والعتق من النيران، والنفحات والعطايا والعمل والاجتهاد والعبادة والتقرب من الله، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، هواء ليلتها مثل النسمة تعانق وجهك وجسدك برِفق، يخبرك بأنك ستعيش ليلتها في سلام وهدوء وسكينة طيلة حياتك، إنها سلام حتى مطلع الفجر وآخر العمر، تنزل فيها ملائكة الرحمة يملأون الأرض نورًا وسلامًا، حيث تستشعر هذه النفحات، ومن أصابها كُتِبَ له أجر عمل ثلاث وثمانين سنة، وغُفرت جميع ذنوبه، وتكتب الملائكة أقداره وأحواله مع الفائزين، وإذا اجتهد العبد ولم يكتب الله له أن يصيبها بالموافقة لم يحرمه أجر الاجتهاد، والمثابرة، والقرب من الحبيب.
ليلة تحقيق الوعود
ليلة القدر تتنزل فيها ملائكة الرحمن شاهدة لك أو عليك، إنها ليلة الوعود والشهود، ليلة القبول وهجران الخمول، ليلة النصر بعد الصبر، إذا داعبت الأحلام قلبك فإن وساوس الشيطان تقف في وجهها باليأس تارة وبالقنوط تارة أخرى، وحينها انفض عن قلبك تراب الوسواس الخناس واملأ صدرك باليقين فيما عند الرحيم الرحمن، واطرق أبواب رب العباد في ليلة الهِبَات؛ واملأ قلبك بحسن اللجوء الذى يعقبه صدق الوعد والإجابة، واعلم أن حسن ظنك بالله سيخترق أبواب السماء، فسيقول الله لتلك الأمانى: كوني، فتكون، فلنكتُب دعواتنا لأنفسنا وأهلنا وأحبابنا وجيراننا وأصحابنا، وكل من نعرفه من قريب كان أو بعيد، وأكثر من سؤال ربك بالخير لنفسك ولمن تحب من الأهل والجيران والأصدقاء رجاء أن تدخل السعادة على قلوبهم والطمأنينة على نفوسهم، ولا تعجل في الدعاء فإن الله سيستجيب لا محالة، ولكن كل شيء بقدر.
طرق الوصول
يُستحَبّ للمسلم إحياء ليلة القدر بتلاوة آيات القرآن الكريم وترتيلها، ولا يُشترَط خَتمه كاملاً في تلك الليلة، وقيام ليلة القدر لا يقتصر على الصلاة، بل يكون بأداء مختلف أنواع العبادات، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»، فلم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم العبادات التى يقوم بها المعتكف ليلة القدر بل جعلها أمراً راجعاً إلى انشراح الصدر وميل القلب، لأن الطرق جميعها تصل بالعبد إلى خالقه طالما أنه كان قاصدا سبيل مولاه، ويستحب الجمع بين الصلاة والقرآن بإكثار المعتكف أو غير المعتكف من الصلاة وقراءة القرآن وتفريغ قلبه من هموم الدنيا وغمومها، ومشاغلها ومتاعبها واستراحة قلبه في واحة الإقبال على ربه حتى يصل إلى باب القبول والفوز بمقام الرضا، وأن يسارع المسلم في تلك الليلة بالإكثار من الصدقات وعمل المعروف والتودد إلى البسطاء والمحتاجين بما يستطيع لأن الله لا يكلف نفسا فوق طاقتها.
سبب تسميتها
اختلف العُلماء في سبب تسميتها «ليلة القدر»، فقالوا:
* القَدْر من العظمة؛ فهي ليلة عظيمة.
* القَدْر من الضيق؛ فهي ليلة تُصبح فيها الأرض ضيّقة؛ لكثرة ما فيها من الملائكة، لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الملائِكةَ تلْكَ الليلةَ في الأرْضِ أكثَرُ من عدَدِ الحَصَى».
* ليلة تُقدَّر فيها الأشياء؛ حيث يُطلع الله فيها الملائكة على تقديره لأمور السنة، قال تعالى: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»
* نزل فيها الكتاب صاحب القَدْر، مع ملك ذي قَدْر، على نبي ذي قدر، لأمة ذات قدر، قال تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ»
* ليلة عظيمة الشرف والقدر؛ لأنّ الله تعالى أنزل فيها القُرآن، لقوله تعالى: « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»
* للقَدْر والشرف الذي يكون للعامل فيها؛ فالطائع والعابد في هذه الليلة يصبح ذا قَدْر وشرف القَدْر في العبادة؛ أي أنّ العبادة فيها لها قَدْر عظيم.
وقتها وفضلها
ليلة القَدْر غير مُحدَّدةٍ بليلةٍ مُعيَّنةٍ من الليالي العشرة الأخيرة من شهر رمضان المبارك، حيث قال النبيّ عليه الصلاة والسلام: الْتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، والتَمِسُوهَا في كُلِّ وِتْرٍ، وقد اختصّها الله تعالى بنزول القرآن الكريم، وجعل أجر العمل الصالح فيها أفضل من أجر العمل مدّة ألف شهرٍ، ومَن وفَقَّه الله تعالى لقيامها إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، وهي ليلة مباركة يفرق فيها كل أمر حكيم، وليلة تهبط الملائكة من كل سماء ومن سدرة المنتهي فينزلون إلي الأرض ويؤَّمِنون علي دعاء الناس إلي وقت طلوع الفجر، وتنزل الملائكة والروح فيها بالرحمة بأمر الله عز وجل وبكل أمر قدَّرَهُ الله سبحانه وقضاه في تلك السنة إلى قابل، وأنها ليلة سلامة وخير لا شر فيها إلي طلوع الفجر.
هدى ورحمة
لحظة خاشعة متبتلة، يَغَمُرُ فيها الفضل الإلهى الأرض ومن عليها، ويعَّمَ النور الربانى العوالم كلها، حيث ليلة نزول القرآن هدى ورحمة، وشفاء وبشرى، ومع هذه اللحظة بدأ ميلاد خير أمة أخرجت للناس، وقد أكَرم الله كل لحظة من لحظات هذه الليلة فجعلها فى ميزان الثواب والحسنات خيرًا من ألف شهر، وارتبطت لحظة ميلاد الأمة بسبب رفعتها وإعلاء قدرها ومكانتها بفضل وبركة نزول القرآن الكريم أصل البناء الإيمانى للإنسان، ومنقذ الإنسانية من الضلال، ينال بركته من اهتدى بهديه وأقام حياته فى قوله وفعله، ولم يتخذه زينة على الحوائط والجدران، أو يهجره ويضعه فى أركان فى البيوت والسيارات التماسًا للحفظ والبركة ، بل يقف عند تمييز معانيه، وما فيها من وعد ووعيد، وترغيب وترهيب وإنذار وتبشير، وهداية وبشرى وشفاء للعقول والنفوس، وحينما يصل الإنسان لإدراك تلك المعاني في هذه الليلة سيعرف حتما أنه خرج بالجائزة الكبرى وهي علاقته المتجددة بكتاب الله تعالى.
فضل سورة القدر
ورد في فضل سورة القدر أن من قرأَها فى ليلة نادى منادِ: استأْنِفِ العمل فقد غفر الله لك»، وأنَّ من قرأَها فتح الله فى قبره بابين من الجنَّة، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ مَن صلَّى بين الرّكن والمقام أَلف ركعة، ومن فضائل سورة القدر أنها حملت البشارة بكرم الثواب على العبادة للطائعين فيها حيث يحصدون أجر ألف شهر في ليلة واحدة، والألف شهر على سبيل التكثير وليس على سبيل تحديد المدّة الزمنيّة، لأن فضل الله ليس له حد ولا عد.
منزلتها ومكانتها
اختصّ الله تعالى أُمّة النبيّ مُحمد صلّى الله عليه وسلّم وفضّلها على سائر الأُمم، وأنزل إليهم القُرآن الكريم في ليلة القدر، وجعل العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ممّا سواها، كما أنّ جبريل عليه السلام يتزّل فيها ومعه عدد كبير من الملائكة بإذن الله تعالى؛ ليقضوا ما أمر الله به، وفي هذه الليلة بدأ الله تعالى تقدير دينه، وحدَّد الله فيها دعوة نبيه؛ أعلى الله فيها منزلة حبيبه مُحمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأرسله برسالة الإسلام وأنزل عليه القرآن، «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ»؛ فلا أحد يعرف قيمتها ولا فضلها إلّا ما أخبر الله به البشر من بركتها.
ليلة قضاء الحوائج
ليلة القدر يهب الله فيها الطائعين وفاعلي الخير والثواب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، تتنزل في هذه الليلة ملائكة الله تعالى على عباده المؤمنين يشاركونهم عبادتهم وقيامهم، ويدعون لهم بالمغفرة والرحمة، ويكتبون أقدار العباد وآجالهم وأرزاقهم، ليلة تقضى فيها الحوائج، وتُنال فيها الرغائب، وفِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، من قامها فكأنما قام ألف شهر، ومن ذكر الله فيها أو قرأ القرآن أو دعا فكذلك، وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمة، لأن أعمارهم أقل، وأجسادهم أضعف، لذا عَوَّضَهم الله تعالى بمضاعفة الأجر في هذه الليلة، يقول ابن القيم: لو كانت ليلة القدر بالسنة ليلة واحدةً لقمتُ السنة حتى أدركها، فاحرص على أن تكون فيها لله ذاكرا، وللقرآن قارئا، وبالتسبيح قانتا، تسأل ربك سعادة الدنيا والآخرة، وإياك ولصوص الحسنات ومواطن الغفلة فيفوتك خير كثير